آمال خليل – الاخبار
لن تكون صيدا قبل 6 أيار هي نفسها بعده. الانتخابات المقبلة لن تعيد بوابة الجنوب إلى عام 2009 قبل استثئار الحريرية بقرارها النيابي ثم البلدي بعد سنة واحدة. ليس الفوز المرجح لأسامة سعد ما سوف يكسر الأحادية فحسب. تكشف للكثيرين أن النهج الذي اتبع مع صيدا وجوارها، إنمائياً واقتصادياً وسياسياً، يستجلب الخسارة
عندما أسقطت حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2011، خرج مناصرو تيار المستقبل في صيدا يصيحون: «يا صيدا قومي قومي سرقوا منا الحكومي». لم يكن ذلك السقوط سوى بداية مسار طويل من السقطات والهزائم التي انعكست على القاعدة الشعبية في صيدا. لم يكن أولها صرف الموظفين أو آخرها تعثر معمل النفايات أو أوسطها السكوت المتعمد عن ظاهرة أحمد الأسير.
بلدية صيدا المحسوبة على «المستقبل» منذ عام 2010، سعت إلى تكبير صورة إنجازات منسوبة إلى نائبي التيار الأزرق بهية الحريري وفؤاد السنيورة، وهي إنجازات تعثرت من جبل النفايات الذي عاد ليكبر ومعه إضافات من نفايات تأتي خلسة من خارج المدينة، إلى ملف الحدائق العامة والتي كان للقطاع الخاص دوره فيها، وصولاً إلى تأهيل شبكات الصرف الصحي وإنشاء المرفأ التجاري.
الأكيد هو الحديث عن إنجازات من نوع توفير فرص عمل، علماً أنها كانت محصورة في الشرطة والمشاريع التنموية والخدماتية، وذهبت بغالبيتها إلى أنصار «المستقبل»، كما هي الحال في مؤسسة أوجيرو (سابقاً وفي هذا الأيام)، فضلاً عن المناخات التي أشاعها نفوذ قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات في المدينة. هذا التراكم أوحى للرأي العام بأن لا مرجعية تمثيلية صيداوياً سوى مجدليون ومن تمون عليه في مؤسسات الدولة وخارجها كالجامعات الخاصة والبرامج التنموية والجهات المانحة. مرت السنوات فاكتشف مناصرو «المستقبل» أن الأموال التي تنفق إنما تأتي من خزينة الدولة، وأن ما عرفوه أيام رفيق الحريري انتهى.
ما حل بموظفي شركة «سعودي أوجيه» شكل صدمة كبيرة، لا سيما عندما بدأت النائب الحريري بصرف معظم العمال والموظفين والحراس من مقر إقامتها في فيلا مجدليون. «الست» كانت قد أقفلت المستوصفات الصحية والمراكز الاجتماعية التابعة لمؤسسة الحريري التي كانت تقدم للمناصرين الدواء والمعاينة الطبية وصندوق الإعاشة. وبين هذا وذاك، كانت لائحة الدائنين تكبر يوماً بعد يوم. محطات وقود ومطاعم ومحال بيع مواد غذائية، بلغت مستحقاتها المالية لدى سيدة مجدليون إلى مبالغ كبيرة (يجري الحديث في المدينة عن ملايين الدولارات)، لم تتمكن من سدادها، حتى أن الأزمة المالية بلغت حد تعليق برنامج الولائم التي كانت تنظمها للعائلات الصيداوية في شهر رمضان.
في ذروة الأزمة المالية، وتراجع النفوذ السياسي العام، بدأت بهية الحريري ومعها فؤاد السنيورة، مرحلة جديدة من العمل السياسي. قررا غض الطرف عن الخطاب العنيف للشيخ أحمد الأسير، والسكوت على إغلاق طريق الجنوب لأكثر من شهر، لا بل إن السنيورة قال إن الأسير «يعبّر عن الصيداويين، لكننا نختلف معه بالأسلوب».
التحريض الذي ساهم «المستقبل» به، في شكل مباشر أو غير مباشر، في مرحلة الأسير، أثر سلباً في إقبال الجنوبيين على الأسواق والمطاعم الصيداوية. بدأت صرخة المؤسسات الاقتصادية تعلو، قبل أن تتلقى ضربة أخرى بقرار البلدية منع مرور السيارات في بعض شوارع السوق التجارية الرئيسية. حاولت الحريري ترميم صورتها أمام الرأي العام، متبرئة من الأسير وداعمة لإنهاء ظاهرته بالقوة. لكنها اضطرت في العلن والخفاء إلى محاولة استرضاء أهالي المتورطين معه في صيدا، فكانت النتيجة خسارة بالجملة والمفرق.
في العام 2016، خرج «المستقبل» في صيدا من استحقاق الانتخابات البلدية، بخسائر واضحة. صحيح أن البلدية تخضع لوصاية مجدليون. لكن لولا حيثية رئيس البلدية محمد السعودي وإمكاناته المادية التي مولت الحملة الانتخابية، لما انتصرت لائحته المحسوبة على بهية الحريري. جاء الفوز البلدي بأصوات تقل عن فوز 2010 بخمسة آلاف صوت. ليتبين سريعاً أن التراجع سببه الأزمة السياسية والمالية الداخلية من جهة وانكفاء المزاج الإسلامي في المدينة عن تأييد «المستقبل» من جهة أخرى، بدليل أن مناصري الأسير خاضوا المعركة البلدية بلائحة «أحرار صيدا» التي حصدت أكثر من ألفي صوت، في حين حاز السعودي نحو 15 ألف صوت. رقم يعتبر قليلاً بالنظر إلى أن اللائحة كانت مدعومة من «المستقبل» ورئيس البلدية السابق عبد الرحمن البزري والجماعة الإسلامية.
السؤال المطروح حالياً، كيف ستكون الحال في الانتخابات النيابية المقبلة التي تخوضها بهية الحريري وحيدة في مواجهة الجماعة والبزري وحلفائهما من جهة وأسامة سعد وحلفائه من جهة أخرى؟.
بالنظر إلى الحملة الانتخابية المكثفة التي تقوم بها الحريري في دائرة صيدا – جزين، يبدو أنها تواجه مأزقاً. فقد فقدت ثلاثة أطراف رئيسية ساهمت بضخ آلاف الأصوات التي حصلت عليها في انتخابات 2009 (25 ألفاً و400 صوت مدعومة من الجماعة والبزري والإسلاميين). يدرك معظم المستقبليين أن الحريري سلّمت بخسارة المقعد السني الثاني لمصلحة أسامة سعد. وما تفعله في الأيام الأخيرة، إنما هو محاولة لرفع الحاصل الانتخابي، في محاولة لتعويض حلفاء الأمس، من خلال الفوز بأحد مقاعد جزين المسيحية الثلاثة. لأجل تحقيق هذا الهدف سلكت الحريري دروباً عدة:
أولاً: استثارة عاطفة وتضامن الصيداويين بالإيحاء بأنها مستهدفة ومحاصرة وتواجه مؤامرة لإقفال بيت الحريري السياسي، في إشارة إلى رفض الرئيس نبيه بري دعمها وعدول التيار الوطني الحر عن التحالف معها.
ثانياً: محاولة استقطاب أنصار «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب بعد خسارة أصوات التيار الوطني الحر. هنا، هاجسها رفع الحاصل الانتخابي الذي ستحققه بمفردها في صيدا. وبدا تكتيكها واضحاً من خلال كيل المديح لرئيس القوات سمير جعجع واصفة إياه في لقاء انتخابي بأنه «صاحب ثوابت وطنية»، بعكس ما قالته بحقه وبحق القوات والقيادي العوني النائب زياد الأسود قبل فترة.
ثالثاً: الترويج أمام مصروفي «سعودي أوجيه» الصيداويين بالتعويض عليهم قريباً بتأمين صحي أو توظيف (تظاهروا بالأمس في قلب مدينة صيدا مطالبين بحقوقهم)، بالتزامن مع جهدها لاستمالة بعض أهالي السجناء الإسلاميين، واعدة إياهم بالإفراج عن ذويهم بعد الانتخابات، وكذلك العمل على استقدام ناخبين من الخارج، علماً أن الحصة الصيداوية لن تكون كبيرة، بل تقتصر على العشرات ممن تركوا «سعودي أوجيه» ويعملون حالياً في شركات أخرى في السعودية.
أسامة سعد أولاً؟
تخطى مناصرو بهية الحريري وأسامة سعد مسألة فوزهما في الانتخابات. كثر يضمنون حصولهما على أكثر الأصوات التفضيلية. ما يشغل البال حجم التصويت لكليهما. على رغم مرور تسع سنوات، لا تزال الأصوات الإثني عشر ألفاً و400، التي تفوقت فيها الحريري على سعد، مذاقها مر في فم القاعدة الوطنية الصيداوية. يجزم أولئك بأن انتخابات 2018 ستعوض لهم انكسار 2009. فيما تخشى القاعدة الزرقاء تقلص الفارق إلى مئات الأصوات، ولا يستبعد البعض حصول سعد على نسبة التصويت الأعلى، بالنظر إلى نقاط القوة الكثيرة التي فقدتها سيدة مجدليون.
وريث خط الشهيد معروف سعد لم يتغير. ثوابته التي تتقدم على المصالح الانتخابية تعمل لمصلحته هذه المرة بخلاف 2009. يحظى أسامة سعد بتحالف قوي مع الرئيس نبيه بري وحزب الله ومع المرشح الماروني إبراهيم سمير عازار. سعد الثابت على مبادئه ومواقفه رفض عرضاً من التيار الوطني الحر تشكيل لائحة واحدة شرط التخلي عن عازار. اختار سعد مبادئه. ضحى بالمشاركة في لائحة قوية مقابل التنازل عن التزاماته.
حيثيات حملة أسامة سعد في العام 2018 رافقتها علامات فارقة، أبرزها:
أولاً: في حي السكة في مخيم عين الحلوة، التقى سعد بفعاليات العائلات الفلسطينية المجنسة لبنانياً وقيودها في صيدا. في الدورات الانتخابية الماضية، كان ولاء معظم هؤلاء لبهية الحريري. العلاقة الطيبة بين «الست» وبين قيادة حركة فتح في لبنان ومن خلفها السلطة الفلسطينية، كانت توفر لها تجيير أصوات غالبية المجنسين البالغ عددهم حوالى ألف و200 صوت. المؤشرات الأولية تشير إلى أن نصف هؤلاء يميلون إلى أسامة سعد لا إلى الحريري. مع الإشارة إلى أن الحريري لم تكن تهتم كثيراً بهؤلاء، ولم تخصص جهداً مباشراً لهم. لم تعد حركة فتح تملك السيطرة على تلك الفئة، لتضمن لسيدة مجدليون أصواتها. فضلاً عن أن تسوية ملفات بيوت التعمير قانونياً لم تبت بعد، على رغم تكرار الحريري الوعود ذاتها بالحل منذ العام 1992.
ثانياً: التقى سعد عائلات محسوبة انتخابياً على خصومه، كآل الزعتري وأبو ظهر وحجازي وسعدية. في الوقت الذي أعلنت بعض الشخصيات الصيداوية تأييده بعد أن كانت تؤيد عام 2009 الحريري والسنيورة. كما حظي بتأييد بعض المقربين من عبد الرحمن البزري، ممن قرروا مقاطعة الأخير بسبب تحالفه مع العونيين. وفي هذا الإطار، برز لقاؤه مع وفد من أطباء المدينة في مستشفى لبيب أبو ظهر بحضور معين أبو ظهر.
ثالثاً: لا يضطر سعد لإعادة الوصل مع الناس كأنه يراهم كل أربع سنوات. فهو لا يبرح البلد القديمة وحسبة الخضر وأصحاب البسطات والعربات والأسواق الشعبية. لا يمكن رؤية بهية الحريري مثلاً تجول في حسبة الخضر على رغم امتلاك زوجها لمتجرين فيها.
رابعاً: وسّع سعد مروحة جولاته إلى أبعد من صيدا. لحق بالصيداويين المقيمين في البقاع وإقليم الخروب وبيروت والزهراني وصور في مقابل زيارة واحدة سجلت للحريري إلى صيداويي الرميلة.
خامساً: يستفيد سعد من العلاقة الملتبسة بين الحريري والقوى المسيحية في جزين. ظل تراث آل سعد البعيد عن كل أشكال المذهبية والطائفية حاضراً بقوة عند أبناء شرق صيدا. بعكس الجو الخاص بآل الحريري، الذين لم يعملوا على إزالة ترسبات الحرب الأهلية وتهجير قرى شرق صيدا وتمدد الصيداويين سكنياً وعقارياً في القرى المسيحية. ثم التحريض المذهبي الذي أعقب اغتيال رفيق الحريري وأحداث 7 أيار وظاهرة الأسير والمواقف الحادة المتبادلة بين «المستقبل» والنواب المسيحيين.
هذه العوامل كلها أدت إلى منع قيام تحالف حقيقي بين الحريري وبين القوى الجزينية الكبرى في لائحة واحدة. في المقابل، كانت الطريق إلى جزين معبدة أمام سعد، مستنداً إلى إرث عائلته الجزيني الذي طوره. والده ارتبط بتحالف وثيق مع نائب جزين الراحل جان عزيز، فأسسا لعلاقة بين المدينتين تخطت الطائفية. أما مصطفى سعد، فقد ساهم في عودة المسيحيين إلى قراهم بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي وعملائه في منتصف الثمانينات.
يبقى التأثير السلبي الأبرز ضد الحريري لمصلحة خصومها، لا سيما سعد، أزمة النفايات التي أعادت المدينة إلى الصفر. يوم الإنتخاب، سوف يذهب الصيداويون للاقتراع برفقة روائح أطنان النفايات المتكدسة في محيط معمل الفرز ومجاري الصرف الصحي.
صيدا وجزين: نلتقي بعد الانتخابات!
منذ تشكيل اللوائح، يوحي المشهد في صيدا وجزين بأن المرشحين يخوضون الانتخابات على أساس القضاء وليس على أساس دائرة صيدا – جزين. النائبان زياد أسود وأمل أبو زيد اللذان لم يبرحا صيدا خلال المفاوضات لتشكيل التحالفات، لم يعرجا عليها عقب إعلان لائحتهما مع شريكيهما الصيداويين عبد الرحمن البزري والجماعة الإسلامية. مثلهما عجاج حداد وأمين رزق وسليم الخوري الذين جالوا على مختلف الفعاليات الصيداوية. إذا قلبنا الصورة، لا يختلف المشهد. الجولة الوحيدة لبهية الحريري لم توصلها إلى جزين. الماكينات الانتخابية للوائح الأربع المتنافسة تفسر الانقطاع بأن الصوت التفضيلي «جعل كل قضاء يقبع شوكه بيديه». يقول أحد المسؤولين: «ماذا تفيد جولة مرشح جزين في صيدا. عدم إمكانية التشطيب يجبر الناخبين في جزين وصيدا على إسقاط اللائحة كما هي. لكن العبرة بالتفضيلي. فلماذا يهدر الجزيني أو الصيداوي وقته بجولات لا تفيده في يوم الحشر؟». لكن أسامة سعد وإبراهيم عازار تخطيا المصلحة الآنية التي يفرضها التفضيلي. يداً بيد، جالا على قرى قضاء جزين وجبل الريحان وصيدا والزهراني والغازية والنجارية…