نبيل هيثم – الجمهورية
الملاكمة السياسية العنيفة بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل»، ما زالت على احتدامها، والكلام العالي النبرة الذي تبادلاه، أصاب كليهما في مكان يؤلمه، وألحق بالحكومة التي يشتركان فيها تصدّعاتٍ واضحة.
حتى الآن، تبدو الملاكمة ثنائية، محصورة فقط بين اللونين الأزرق والبرتقالي، لكن هل ستبقى محصورة بهما وحدهما، ام انّ حلبتها ستتوسّع وتنضم اليها ألوان اخرى؟ وهل هذه الملاكمة من النوع الذي يمكن أن يُحتَوى، أم ان انعكاساتها وتفاعلاتها ستتصاعد الى حدّ وضع الحكومة على منصّة الإعدام؟
من النتائج المباشرة لهذه الملاكمة:
– أنها فرّقت بين «حليفين» كانت تجمعهما «تسوية سياسية» وتفاهمات منظورة وغير منظورة، وجعلت منهما متراسين متقاصفين بـ«خطاب عدائي» وباتّهامات واستحضار عبوات سياسية ناسفة من زمن الخلاف الماضي بينهما، وتهديدات بقطع ما يُعتبر شريان الحياة السياسية للطرف الآخر، بين قائل بتطيير الحكومة بما تعنيه هذه الحكومة من لحظة استعادة حيوية سياسية وتأكيد لحضور ودور وموقع بالنسبة الى الرئيس سعد الحريري، وبين قائل بعهد غير قادر على الإنجاز، وبمعنى أدق عهد فاشل ومشلول!
– أنّها وضعت حجراً إضافيّاً في طريق الحكومة، بما يعيق، أو يشلّ انطلاقتها التي لم تبدأ بعد.
– أنها أحدثت بلبلة على مستوى المشهد الداخلي العام، وأعادت الأجواء الى سلبيتها الشديدة، وحال الإحباط السياسي والشعبي التي كانت سائدة ما قبل تشكيل الحكومة. ومع هذا التطور لم يعد السؤال حول قدرة الحكومة على العمل والإنجاز، بل حول قدرتها على البقاء والاستمرار.
– أنها زادت المخاوف على ما جرى تعليقه من آمال على انطلاقة حكومية نوعية نحو مقاربة الاستحقاقات الداخلية والملفات المتراكمة والمستعصية، بما تتطلّبها من إصلاحات وتعيينات.
– أنها زادت المخاوف أكثر على «سيدر»، من أن يكون «اشتباك التيارَين» وانعكاسه على الحكومة وشلّ عملها، بمثابة رصاصة رحمة على ما هو منتظر من هذا المؤتمر. علماً أنّ ثمة إشارات تشكيكية متتالية تلقّاها لبنان من الدول المانحة قبل الاشتباك.
والخشية الكبرى، على ما يقول خبراء إقتصاديون، أن يقدّم هذا الاشتباك وانعكاساته، سبباً جديداً لتخفيضات اضافية للتصنيف المالي للبنان، وهذا ما قد يظهر في وقت قريب قد لا يتعدّى نهاية الشهر الجاري.
يتسلل ممّا تقدم سؤال: هل دنا أجلُ الحكومة؟
في الشكل، بدا انّ موقف الوزير جبران باسيل معبّرٌ عن موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي يقال إنه مصاب بخيبة أمل كبرى؛ فالحكومة التي سمّاها «حكومة العهد» ليست بحجم الآمال التي علّقها عليها، ومن هنا تعالت الشكوى الرئاسية من السفر المتواصل لرئيسها، ومن بطئها، وعدم انسجامها مع استعجال رئيس الجمهورية لتقديم ولو إنجاز واحد من سلّة الإنجازات التي وعد بها قبل تأليفها.
وفي الشكل أيضاً، انّ حكومة العهد الاولى، استطاعت أن توفّر حدّاً معيّناً من الانسجام، ربطاً بما سُمِّيت «التسوية الرئاسية»، وجاء الاشتباك بين التيارَين، ليلقي شكوكاً واضحة حول ان هذه التسوية ما زالت صالحة، او بالاحرى ما زالت موجودة.
وفي الشكل ايضاً وايضاً، انّ الاشتباك أظهر وكأنّ الطرفين وصلا الى نقطة اللاعودة، فحجم الاتهامات المتبادَل بينهما، وحدّة نبرة باسيل وتلويحه بإسقاط الحكومة، يوحي وكأنّ الاجواء شبيهة بتلك التي سادت في كانون الثاني 2011 عشية إعلان وزراء 8 آذار استقالتهم من الرابية وتطيير حكومة سعد الحريري.
وأما في عمق الاشتباك الحالي، فتتقاطع المقاربات السياسية حول ما يلي:
– انّ الاشتباك، عكس تفسّخاً واضحاً في العلاقة بين حليفين جمعتهما في وقت ما، تسوية سياسية مشتركة، بما فيها من مصالح وتفاهمات، يبدو أنها استنفدت المطلوب منها لكليهما، وبالتالي انصرف كل طرف الى مقاربة اولوياته بالشكل الذي يتلاءم مع مصلحته، وهو ما أكده اللقاء الاخير بين الحريري وباسيل، الذي فشل في ايجاد مقاربة مشتركة ولو على الحدّ الأدنى ممّا تُسمى ملفات شراكة بينهما.
– ان كل طرف، له اسبابه، وحاجته الى هذا الاشتباك، من باب حاجة كل منهما الى اعادة تجميع اوراقه وشدّ العصب كلٌ حول شعاراته واولوياته وعناوينه الداخلية او الإقليمية.
– مهما ارتفع سقف الخطاب، فإنه لن يصل، أقله في هذه المرحلة، الى الانفجار الكامل، فالطرفان محكومان، بحكم الضرورة السياسية والحكومية، بإعادة ربط العلاقة بينهما، وترميمها ولو على مضض، ليس على اساس إعادة اللحم على ما كان عليه الحال في السنوات الاخيرة، بل على اساس «تنظيم الخلاف»، ذلك انهما باشتباكهما العنيف وضعا ما يمكن أن تُسمّى «قواعد اشتباك» بينهما من الآن فصاعداً، وهذا الاشتباك يصعد ويهبط تبعاً للظروف التي قد تستجدّ، خصوصاً في ظلّ ما يقال عن انّ المنطقة حالياً تعيش مرحلة انتقالية، ليس معلوماً حتى الآن الى أيّ اتجاه ستسير.
– قد يدغدغ التلويح بإسقاط الحكومة مشاعر خصوم الحريري، ولكن قد لا يكون هذا الأمر ممكناً، فإن توفّرت ارادة الإسقاط لدى «التيار الوطني الحر»، فهذا يتطلب اولاً تغطية من رئيس الجمهورية فهل هذه التغطية متوفرة؟ كما يتطلب امتلاك القدرة على جذب القوى السياسية الاخرى، وعلى وجه الخصوص حلفاء التيار، الى خياره هذا، فهل هذا متوفر؟ ويتطلب ايضاً قدرة الإسقاط من طرف واحد عبر تقديم 11 وزيراً استقالة جماعية، فهل هذا متوفر؟ وهل إنّ الوزير المشترك بين التيار واللقاء التشاوري سيماشيه في تقديم الاستقالة؟ وهل إنّ التيار قادرٌ على إلزام هذا الوزير بالاستقالة إن قرّر الذهاب اليها؟
تتقاطع المقاربات السياسية عند نقطة جوهرية وهي أنّ التيار ورئيسه قد يكون ذهب بعيداً في خطاب حماسي لا ترجمة عمليّة له، فرغم كل الخطاب العالي، لا أحد يريد أن يتحمّل مسؤولية تفجير الحكومة، ورغم كل المآخذ عليها – خلال الشهر الأول من عمرها – فإنّ أولوية بقائها هي القاسم المشترك بين القوى السياسية الأساسية. لكن مع التسليم ببقائها فإنها لا تستطيع أن تقلع في هذا الجوّ.
وبحسب هذه المقاربات فإنّ بقاء الحكومة يشكل عنصرَ أمان ولو وهميّاً للداخل، وإسقاطها يهزّه، ويسدّ منافذ الدعم الخارجي المنتظر. وإذا كان إسقاطها يعدّ ضربة معنوية وسياسية قاسية للحريري، فهو يسدّد ضربة معنوية وسياسية أقوى للعهد، لفشل حكومتيه، ولعدم قدرته على ترجمة اسمه «العهد القوي»، ولعدم توفّر بديل للحريري، وبالتالي عدم قدرة على تشكيل حكومة. ما يعني أنّ التلويح الذي حصل بإسقاط الحكومة، ما هو إلّا تلويح بالدخول في أزمة كبرى وفتح الباب على المجهول.