خبر

حزب الله و”شجاعة الاعتذار”

بقلم: دافيد عيسى
سياسي لبناني

لكل طائفة في لبنان رموزها وشهداؤها، هذه هي ميزة لبنان وعلامته الفارقة في أن تتعايش كل هذه الطوائف والمجموعات تحت سقف واحد وعلى أرض واحدة من دون التخلّي عن هويتها الدينية والثقافية والاجتماعية ومن دون التنكّر لهذا الواقع من التعددية والتنوّع، الذي هو مصدر غنى وإثراء للكيان اللبناني الفريد من نوعه.
المسيحيون في لبنان مرّوا بمراحل كثيرة وأوقات عصيبة وحَفل تاريخهم الحديث بالنضال والمعاناة والتجارب المريرة، وعرفوا قيادات وسياسيين كبار وشهدوا انقسامات ونزاعات داخلية… ولكنهم ما اتفقوا يوماً في أكثريتهم الساحقة على شخص مثلما اتفقوا على الشيخ بشير الجميل وفي تأييده و”مبايعته”.
ولا مبالغة في القول إن بشير الجميل يمثّل للمسيحيين في لبنان قيمة وطنية وتاريخية ويقيم في وجدانهم الجماعي ويمثّل بالنسبة لهم “أيقونة” نضال وتضحية، وبالتالي فإنهم حسّاسون جداً إزاء أي تعرّض له وأي انتقاص من شهادته أو أي طعن في وطنيته، وشأنهم في ذلك شأن شركائهم في الوطن الذين لا يقبلون أي تعرّض لرموزهم، فلا الشيعة يقبلون أي تعرّض للإمام موسى الصدر، ولا السنّة يقبلون أي خطأ في حقّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري ولا الدروز يرتضون النيل من زعيمهم كمال جنبلاط.
من هنا يجب فهم ردّة الفعل السريعة والقويّة والعنيفة التي قوبل بها كلام النائب نواف الموسوي في مجلس النواب وحتى أن الناس سبقوا السياسيين وحدّدوا الموقف بصدق وعفوية واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات المستنكرة والمستهجنة والمهاجمة للموسوي…
وحسناً فعل “حزب الله” عندما بادر إلى الاعتذار، وعندما جاء هذا الاعتذار رسمياً وعلنياً من قاعة مجلس النواب وكان كافياً لتطويق واحتواء حالة التوتر والغضب والانفعالات، ولإشاعة حالة من الارتياح، وهذا الارتياح المرفق بتقدير خطوة “حزب الله” ليس لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة، وإنما أيضاً لأن هذه البادرة تنمّ عن شجاعة الاعتذار.
وهذا سلوك سياسي وطني يجب أن يتعمّم على كلّ المستويات وعند مختلف الجماعات لأنه حجر الأساس في بنيان العيش المشترك والوحدة الوطنية، فمن هنا تبدأ فلسفة العيش الواحد، والاعتراف بالآخر واحترام خصائصه ومعتقداته ورموزه وشهدائه، وفي ذلك اعتراف بوجوده وتاريخه واستعداد للذهاب معاً نحو مستقبل أفضل ومصير مشترك.
وحتى لا أغوص في تفاصيل ما جرى ومتاهات ما سبق الاعتذار وما تلاه، فإنني أكتفي باستخلاص أمرين من هذه الواقعة:
الأول أن “المجتمع المسيحي” رغم ما أصابه من تقهقر وخيبات ما زال وفياً لمبادئه وشهدائه، وما نالت من عزيمته وإرادته سنوات قهر وعذاب وما زرعت فيه الشكوك وما دفعته يوماً إلى التنكّر لماضيه…
هذا المجتمع الذي قاوم وصمد للحفاظ على وجوده وهويته وأمنه ومستقبله لا يتقبّل أي مسّ أو تعرّض لتاريخه ونضاله ورموزه، فإذا كان المسيحيون أظهروا على مدى سنوات الكثير من المرونة والانفتاح والاعتدال، فإن كل هذا يقف عند حدود كرامتهم الوطنية، وإذا حصل تعدٍّ أو استفزاز فإنهم ينتفضون ويكونون في انتفاضتهم “واحداً”. وإذا كان من عبرة أولى يُمكن استخلاصها ممّا حدث، أن المسيحيين عندما يكونون موحّدين مثلما توحّدوا في الموقف الاعتراضي، (تياراً وقواتاً وكتائب)، فإن موقفهم يؤخذ بالاعتبار وحقوقهم تظلّ محفوظة وكرامتهم مصانة و”حيطهم عالياً”…
وهذا ينطبق على كبير الأمور وصغيرها، وهذا ما حصل عندما حصل توافق على قانون الانتخاب الذي أدّى إلى تحسين وتصحيح التمثيل الشعبي وجعله أكثر توازناً وعدالة، وهذا ما حصل عندما جرى التعرّض للرئيس بشير الجميّل وإجراء مقارنة غير مفهومة بين ظروف انتخابه وظروف انتخاب الرئيس ميشال عون انطوت على مغالطات أو عبّرت عن وجهة نظر لا يُمكن التسليم بها كحقيقة مطلقة…
الثاني يتعلّق بالطريقة التي تصرّف بها “حزب الله” ونالت إعجابي وتقديري كما إعجاب وتقدير الكثير ممّن يلاحظون هذا المزيد من التبدّل الإيجابي في السلوك السياسي لـ”حزب الله” وفي أدائه ومواقفه، والأمر لا يقتصر هنا على ثقافة وشجاعة الاعتذار وعلى اعتراف بخطأ واستعداد للرجوع عنه وتصحيحه دونما تردّد أو تأخّر… المسألة تذهب إلى أبعد من ذلك وهذا “الاعتذار” الذي له معانٍ ودلالات عميقة هو جزء من مسار عام قرر “حزب الله” انتهاجه منذ فترة، ليظهر أولاً تواضعاً لديه لا يلغيه فائض القوة، وليبرهن ثانياً عن واقعية سياسية تبدأ من الاعتراف بواقع الأمور والتركيبة اللبنانية كما هي وتصل إلى حدّ قبول قواعد اللعبة بما يتناسب مع الواقع اللبناني الخاص والمميز، وليثبت ثالثاً عن شعور وطني وحسّ بالمسؤولية بحرصه على الاستقرار ومسارعته إلى منع التوترات والانفعالات الطائفية عندما تخرج عن حدودها والإطار المسموح به…
كلّ هذا يعني أن “حزب الله” لديه كلّ الاستعداد للتعاطي مع الواقع اللبناني بمرونة وانفتاح واعتدال سواء مع القوى السياسية التي يفتح خطوطاً وعلاقات مع كل أحزابها وشرائحها، ويعني أيضاً أن حزب الله لديه الرغبة والإرادة للتقرّب أكثر من مشروع الدولة والانخراط فيه والدخول إلى الدولة، مجلساً وحكومة وإدارات ومؤسسات، ليصبح جزءاً منها وضنيناً بها كترجمة عملية لشراكته في الحكم وكمكوّن رئيسي وكجزء أساسي من النسيج الوطني السياسي الاجتماعي.
هذا النمط من السلوك والأداء والتفكير والتعاطي الجدير بالتقدير والتشجيع أثبته “حزب الله” أكثر من مرّة في السنوات الأخيرة وترجمه حواراً مع “تيار المستقبل” من عين التينة وتفاعلاً إيجابياُ مع فكرة وضرورة عودة الرئيس سعد الحريري من الخارج لأن من دونه لا شراكة حقيقية وكاملة في الحكم، وإسهاماً إيجابياً في إتمام التسوية السياسية وقانون الانتخابات الجديد…
ولكن “حزب الله” بات أكثر وضوحاً في الفترة الأخيرة وأكثر التزاماً بمسؤولية تحسين وتصحيح الأوضاع والمسار العام بدءاً من تأكيد الالتزام باتفاق الطائف ونفي كلّ ما يقال عن مؤتمر تأسيسي ومثالثة… مروراً بمنح الحكومة الثقة وتسهيل انطلاقتها والدخول في معركة مكافحة الفساد وأخذها على عاتقه ومسؤوليته وتصدّر الخطوط الأولى على هذه الجبهة الساخنة والمستحدثة…وصولاً إلى خطوة الاعتذار العلني والرسمي، هذه خطوة صغيرة ومحدودة في مكانها وزمانها وظاهرها ولكنها كبيرة في معانيها ورمزيتها وعمقها…