صحيفة الجمهورية
البابا فرنسيس في دولة الامارات العربية المتحدة، في زيارة تاريخية هي الأولى لحبر أعظم يزور شبه الجزيرة العربية. تنطوي على دلالات بالغة: إن من حيث حصولها في توقيت يجهد فيه الشرق لاحتواء تداعيات سنوات مظلمة من الارهاب والعنف المُرتكب باسم الدين. او من حيث رمزية المكان، لناحية ما تشكّله دولة الامارات من نقطة مركزية في الخليج العربي، وواحة استيعاب لكل الاديان، وهي إحدى أبرز ميزات الامارات التي تحتضن وحدها ما يزيد على مليون مسيحي، علماً انّ هذه الدولة تتقدّم كمكان للتسامح بين الأديان المختلفة، وضمّت في حكومتها وزيراً لهذه الغاية، وتسمح بممارسة الشعائر الدينية المسيحية في العديد من الكنائس، وسبق ان أطلقت على سنة 2019 اسم «عام التسامح». وايضاً من الهدف منها، اي المشاركة في مؤتمر لحوار الاديان بدعوة من ولي عهد ابو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. وغايته الاساس تعزيز الحوار بين الاديان، وحماية العيش بين المسيحيين والمسلمين والتأكيد على حتمية التعاون الانساني في ما بينهم خصوصاً في منطقة الشرق. وتغليب عناصر الجمع وإشاعة السلام المشترك بين المسلمين والمسيحيين ومكافحة التطرّف والأفكار العنيفة تجاه الآخر.
حطّ البابا فرنسيس بالامس، على ارض الامارات، واستبق وصوله بكلمة مقتضبة، اشاد فيها بدولة الإمارات قائلا: «إنّها أرض تحاول أن تكون نموذجاً للتعايش والأخوّة الإنسانية، ومكاناً للقاء الحضارات والثقافات المتنوعة». مضيفاً: «أنا سعيد بهذه المناسبة، وقد قدّر لي الرب أن أكتب، على أرضكم العزيزة، صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين الأديان، انّ الايمان بالله يوحّد ولا يفرّق، إنّه يقرّبنا من بعضنا رغم الاختلافات، إنّه يبعدنا عن العداء والكراهية».
وصل البابا فرنسيس إلى أبوظبي، قبيل الساعة العاشرة مساء في التوقيت المحلي، واستقبله ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وشيخ الأزهر أحمد الطيب.
وفيما وصف البابا زيارته بـ«المباركة»، قال الشيخ محمد بن زايد: «قداسة البابا وفضيلة الإمام الأكبر يحظيان باحترام وتقدير شعوب العالم كافة، لما يقومان به من دور إنساني كبير في تعزيز الحوار والتفاهم على الساحة الدولية، ويبذلان جهداً مستمراً في الدفاع عن القضايا العادلة ونبذ الصراعات والحروب وتعزيز التعايش بين البشر على اختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية والعرقية».
واكّد بن زايد أنّ «الصورة الحقيقية للمنطقة هي ملايين البشر الذين يؤمنون بالتعايش وينبذون العنف والتطرّف وينفتحون على العالم وينخرطون في مسار الحضارة الإنسانية»، وقال: «هذه الزيارة التاريخية تحمل رسالة إلى العالم كله بأنّ المنطقة العربية مهبط الديانات السماوية الثلاث، التي عاش أهلها على اختلاف دياناتهم وطوائفهم في وئام وسلام عبر قرون طويلة».
ومن المقرّر أن يلتقي البابا فرنسيس مع قادة الامارات، اضافة إلى شيخ الأزهر وأعضاء مجلس حكماء المسلمين، في مسجد الشيخ زايد الكبير، حيث سيشارك في «لقاء الأخوّة الإنسانية».
وبالتزامن مع الزيارة، ينظّم مجلس حكماء المسلمين المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية، بمشاركة قيادات دينية وشخصيات فكرية وإعلامية من مختلف دول العالم. وذلك بهدف مواجهة التطرّف الفكري، والتصدّي لسلبياته وتعزيز العلاقات الإنسانية والتعايش، وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان. وايضاً التأكيد انّ «العقائد المتعددة، تقوم على احترام الاختلاف، وتساهم في إعادة بناء جسور التواصل والتعارف والتآلف والاحترام والمحبة، ومواجهة التحدّيات التي تعترض طريق الإنسانية للوصول إلى الأمان والاستقرار والسلام وتحقيق التعايش المنشود».
وفي برنامج زيارة البابا، احتفال بقداس تاريخي يُقام في ملعب كبير في أبو ظبي، يوم غد الثلثاء، حيث يُنتظر ان يشارك فيه نحو 135 ألف شخص.
الجدير ذكره، انّ البابا، وقبل صعوده الى الطائرة متوجّهاً الى دولة الامارات، دعا الى احترام اتفاق وقف اطلاق النار في اليمن، وحضّ أطراف النزاع على «العمل بشكل عاجل لتعزيز احترام الاتفاقيات القائمة لصالح هدنة في مدينة الحديدة، تُعتبر ضرورية لايصال المساعدات الإنسانية».
وشدّد على «وجود أطفال كثيرين في هذا البلد يعانون من الجوع والعطش ويواجهون خطر الموت».
ولفت الحبر الاعظم إلى أنّ «صرخة هؤلاء الأطفال وذويهم ترتفع إلى حضرة الله».
كذلك اطّلع البابا أيضاً على سيرة حياة طبيب إماراتي تابع تحصيله العلمي في إيطاليا، حيث قرّر هذا الطبيب خلال هذه الأسابيع، ولمناسبة زيارة البابا فرنسيس إلى بلاده، أن يقدّم خدماته الطبية مجاناً إلى حوالى مائة طفل من ضحايا الحرب في اليمن.
وكتب البابا في حسابه على موقع «تويتر» قبيل انطلاق طائرته: «أزور هذا البلد كأخ، لنكتب صفحة حوار معاً، ونمضي سويةً على دروب السلام».
على انّ اللافت للانتباه، هو انّ دولة الامارات شهدت منذ صباح الاحد تساقط أمطار على العديد من مناطقها وبينها أبوظبي، ولدى علم البابا بذلك خلال وجوده على متن الطائرة قال: «في هذه البلدان، يُعتبر هذا بشائر خير».
ومنذ الساعات الاولى لصباح الاحد، اصطف مئات تحت المطر أمام كاتدرائية القديس يوسف في العاصمة الاماراتية، التي سيزورها أيضاً البابا صباح غد، أملاً في الحصول على آخر التذاكر لحضور القداس، والحماسة تغمرهم خصوصاً أنّ الجالية المسيحية في أبو ظبي ترى في هذه الزيارة أنها تفتح المجال أمام محادثات حول التسامح.
وفي الشوارع الرئيسية في أبوظبي وتلك المؤدية إلى مجمّع الكاتدرائية، عُلّقت أعلام الفاتيكان والإمارات بالإضافة الى أعلام اللقاء الديني الذي سيحضره البابا اليوم، تحت مسمّى «لقاء الاخوة والانسانية».
وفيما احتلت زيارة البابا العناوين الرئيسة في الصفحات الاولى للصحف الاماراتية، عنونت صحيفة «الخليج» بالخط العريض: «أهلاً وسهلاً بابا الفاتيكان».
وكتب وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش في «تويتر»: «هي زيارة تحمل قيمة إنسانية عظيمة، تضيف بها دولتنا صفحة جديدة في تاريخ التآخي والتسامح»، لافتاً إلى انّ الزيارة «تؤكّد للعالم نهج دولتنا في التسامح والتعايش السلمي».
ووجّه المسؤول الاماراتي انتقاداً إلى قطر لسماحها باقامة الشيخ يوسف القرضاوي، المقرّب من جماعة «الاخوان المسلمين»، على أراضيها، إنما من دون أن يسمّيه أو يسمّي الدولة الجارة، معتبراً انّ بلاده تستضيف «المحبة»، فيما قطر تستضيف «الإرهاب».
وكتب: «شتّان بين من يستضيف مفتي العنف والإرهاب ومن يُصدر فتاوى تبرّر استهداف المدنيين، ومن يستضيف بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في حوار المحبة والتواصل».
المؤتمر
تزامناً، وتحت رعاية ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، إفتتح وزير التسامح الشيخ نهيان بن مبارك فعاليات «المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية» في قصر الإمارات في أبوظبي، والذي ينظمه مجلس حكماء المسلمين، بمشاركة قيادات دينية وشخصيات فكرية وإعلامية من مختلف دول العالم، بهدف تفعيل الحوار حول التعايش والتآخي بين البشر وأهميته ومنطلقاته وسبل تعزيزه عالمياً.
البطريرك الراعي
وبعيد وصوله الى دولة الامارات للمشاركة في اعمال المؤتمر وملاقاة البابا فرنسيس، ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداساً حاشداً في كاتدرائية القديس يوسف للاتين في أبوظبي، بمشاركة بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، وعدد من الأساقفة والكهنة.
واذ اعتبر البطريرك الماروني أنّ «الإمارات المتحدة هي دولة الأديان المتحدة ودولة الثقافات المتحدة». قال: «انّ مؤتمر «الأخوة الإنسانية»؛ «هذا اللقاء الرائع الغني بالحضور، يدل على انّ البشرية كلها اخوة، وهذا هو عنوان المؤتمر»، معتبراً أنه «هزة ضمير كبيرة للعالم ويعطي دفعاً للمسيحيين وللإسلام».
وأشار إلى «أننا الآن في حاجة لأن يعود كل العالم إلى طبيعته، لأننا جميعنا اخوة ولنا رب واحد خلقنا وجعلنا كلنا أبناءه. هو خالق وهو أب لكل الناس، ولا يمكننا كبشر ان نعيش في الكراهية والحقد»، معتبراً أنّ «هذا المؤتمر يمثِّل دعوة لإنهاء كلّ الحروب والنزاعات».
وأعرب الراعي عن إعجابه الكبير بالشعار الذي رفعه قداسة البابا فرنسيس عنواناً لزيارته للامارات، وهو «إجعلني أداة سلام».