دافيد عيسى
نحن اللبنانيين، نبالغ كثيراً في “جلد الذات”، ومن تابع وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام خلال القمة العربية الاقتصادية في بيروت وما رافقها يلاحظ أننا ذهبنا بعيداً في الحديث عن فشل هذه القمة حيث حوصرت بوابل من الحملات والانتقادات القاسية احياناً والساخرة احياناً اخرى.
واذا اردنا ان نكون واقعيين نقول إن هذه “القمة” لم تفشل، وذلك بمجرد انعقادها وسط هذه الظروف العربية الصعبة والأوضاع المفككة فهذا انجازاً.
التحضيرات والترتيبات جاءت على أفضل ما يكون، وهذا بشهادة أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط الذي أبدى إعجابه بدقة التنظيم الذي أشرف عليه مدير عام رئاسة الجمهورية الدكتور أنطوان شقير الرجل الرصين، يضاف إلى ذلك النجاح على المستوى الاعلامي حيث اخذ المؤتمر حيزاً كبيراً على الشاشات وفي الصحف العربية والعالمية وهذا بحد ذاته انجازاً لبنانياً وهنا لا بد من الاشادة بالدور المهم الذي لعبه المستشار الاعلامي لرئاسة الجمهورية رفيق شلالا الرجل الحرفي والناجح في مهنته، والاهم كان النجاح الامني حيث لم يسجّل أي خلل في كل فترة انعقاد القمة وعبّر الكثير من الضيوف العرب عن إعجابهم بالاستقرار الأمني في لبنان، وهذا يعود الفضل اليه إلى الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الأخرى.
الثغرة الأساسية التي نفذت منها الانتقادات للقمة العربية تمثلت في تدني مستوى التمثيل وعدم مشاركة الرؤساء والملوك، ولكن حتى على هذا المستوى فإن المسؤولية لا تقع على عاتق لبنان بل انه شأن كل دولة وظروفها، وكذلك لم يسجل غياب أي دولة عن القمة سوى ليبيا وسوريا وذلك لأسباب معروفة.
وفي هذا المجال تحديداً لم يشكل مفاجأة إلا غياب عدد محدود من الرؤساء والملوك الذين كان يتوقع حضورهم أو أنهم أعطوا موافقة أولية على الحضور وهم قادة (مصر والأردن وفلسطين والكويت)… وهنا لا بد من التنويه بمشاركة قطر وخصوصاً الأمير تميم بن حمد لحضور الجلسة الافتتاحية وتقديم الدعم المعنوي والسياسي والمادي للبنان وذلك بغض النظر عن كل التأويلات وكل ما قيل ويقال في هذا المجال.
الدولة اللبنانية فعلت كل ما عليها وقدمت أفضل ما عندها لناحية الترتيبات التنظيمية وتأمين ظروف انعقاد القمة لوجستياً وتقنياً واعلامياً وأمنياً، وأما انخفاض مستوى التمثيل فإنه خاضع لحسابات واعتبارات وتجاذبات عربية وإقليمية ليس بإمكان لبنان أن يؤثّر أو يغيّر في مجرياتها.
من هنا فان ما تحقق في القمة يجدر التوقف عند ثلاث مستويات وفي ثلاثة مجالات:
أولاً: نجح لبنان في أن يطرح قضية النازحين السوريين ويجعلها واحدة من القضايا العربية للمرحلة المقبلة بعدما كانت مهملة وتقابل بلا مبالاة، وهذا الملف يلقي بثقله على كاهل لبنان دولة وشعباً ويشكل أولوية مطلقة بسبب ما ينطوي عليه من مخاطر وأعباء على كل المستويات الديمغرافية والاقتصادية والمالية والاجتماعية ومجمل التوازنات الطائفية والسياسية، فكان أن توصلت القمة إلى صيغة خاصة مرتبطة بملف عودة النازحين السوريين صدرت في بيان خاص وتضمّنت دعوة المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته للحد من مأساة النزوح واللجوء ومضاعفة الجهود الدولية الجماعية لتعزيز الظروف المؤاتية لعودة النازحين إلى بلادهم.
وهذا مكسب مهم للبنان، وجهد مثمر يسجّل لوزير الخارجية جبران باسيل الذي اتفقت معه ام اختلفت معه في السياسة الداخلية لكن لا يمكنك الا الاعتراف له بانه يقوم بأداء وطني في كل الملفات اللبنانية التي لها أبعاد وامتدادات إقليمية بدءاً من قضية اللاجئين الفلسطينيين وتأكيد حق العودة والتشبث بدور وكالة غوث اللاجئين “الانروا”، وصولاً إلى قضية عودة النازحين السوريين ودوره الفاعل في القمة العربية من خلال اصراره على ادراج عبارة “العودة الآمنة” وليس “العودة الطوعية” ومن دون ربط العودة بالحل السياسي للأزمة في سوريا في البيان الختامي وقد وضعت بناء على طلبه وعلى اصراره وهذا امر يسجل له.
ثانياً: قمة بيروت العربية تشكل بداية عودة العرب إلى لبنان بعد غياب طويل وانكفاء متمادٍ، وللتذكير فقط فإن آخر قمة عربية عقدت في بيروت كانت في العام 2002 وعرفت بقمة المبادرة العربية للسلام وبعدها وقعت أحداث كثيرة بدءاً من العام 2005 وما كادت تهدأ حتى انفجرت حروب وأزمات المنطقة تحت مسمى “الربيع العربي” وسقط لبنان في لعبة التجاذبات والصراعات الإقليمية ودفع ثمنها أزمة اقتصادية وانقطاعاً عربياً كان له أبلغ الأثر على حركة الاستثمار والسياحة… فجاءت القمة العربية تعلن نهاية هذه الحقبة وانطلاق العدّ العكسي لعودة الاهتمام العربي بلبنان إلى مستوياته السابقة والمعهودة.
ثالثاً: وهذا هو الأهم، القمة العربية الاقتصادية أسست لمرحلة جديدة على الساحة العربية ودشنت عملية الخروج من حقبة الانقسامات الكبيرة التي تعمقت بفعل الحرب السورية واشتداد الصراع الإقليمي على الأرض العربية والوافد من ثلاث جهات: تركيا وإيران وإسرائيل، وإذا كانت القمة الاقتصادية في بيروت شهدت تجاذبات هذا الصراع وعملية مبارزة وتصفية حسابات، فإنها في الوقت نفسه مهّدت الطريق أمام القمة السياسية التي ستنعقد في تونس بعد شهرين وكانت بمثابة “كاسحة ألغام” أزالت ألغام الانقسامات والخلافات من أمامها بما في ذلك الانقسام العربي حول سوريا ومسألة عودتها إلى الجامعة العربية وإلى القمة العربية.
انعقاد قمة بيروت فتحت آفاقاً جديدة على صعيد لم الشمل العربي ويبدو أن الانفراج آتٍ بعد “تلبد” وأن “الحَبَل” حصل في قمة بيروت ولو عن طريق “مجامعة قسرية” و”الولادة” ستتم في قمة تونس ولو “قيصرية”…