خبر

«حادثٌ كبير» يفتح درب الحكومة

جوني منيّر – الجمهورية

 

 

مهما حاولوا أن يجمّلوا إجتماع بكركي، إلاّ أنّ النتائج كانت باهتة. في الأساس لم يكن أحدٌ يتوقع المعجزات، ولا حتى أصحاب الدعوة أنفسهم كانت لديهم أفكار محدَّدة تؤسّس لخريطة طريق مستقبلية.
الإنجاز الوحيد كان ربما بجمع «القوى المتناحرة» ولو أنّ الاجتماع ثبت تباعدها، حيث إنّ كل فريق أو حزب كان يأمل في تجيير الاجتماع لمصلحته الخاصة لا المصلحة العامة للمسيحيين والوطن. ولكن طالما أنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه فلماذا حصلت الدعوة؟

قيل إنّ البطريرك الماروني كان يريد صورة جامعة في قاعة البطريركية المارونية تعطيه دفعاً قوياً قبل زيارته للولايات المتحدة الاميركية، لكنّ الزيارة أُلغيت قبيل انعقاد الاجتماع بتبريرٍ غير مقنع. ذلك أنّ زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية للمنطقة كانت مقرَّرة منذ اشهر، فكيف لم تتنبَّه لها بكركي إلّا الآن؟

البعض برّر إالغاء زيارة البطريرك الماروني لواشنطن بسبب عدم تحديد لقاء مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب. وتردّد أنّ اللقاء الذي كان وارداً عاد «وتفركش» بسبب أخطاء ارتكبها سفير لبنان في واشنطن غابي عيسى.

منهم مَن وضع هذه الأخطاء في إطارٍ غير مقصود بسبب إنعدام الخبرة، ومنهم مَن كان أكثرَ خبثاً في تفسيره واضعاً هذه الاخطاء في خانة «المتعمّدة» كون ترامب الذي لم يلتقِ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون سيكون قد وجّه إشارةً سلبية نافرة الى الرئيس اللبناني باستقباله البطريرك الماروني.

والبعض الثاني وضَع إلغاء الزيارة في اطار الوضع الصحي الذي استجدّ عند البطريرك الماروني. صحيح أن لا شيء خطيراً في هذا الإطار، لكنّ الارهاق كان سيحول دون تحقيق هذه الجولة الطويلة والمتعبة.

لكنّ للبعض الثالث تفسيراً أبعد يصل الى حدود أنّ قرار الغاء الزيارة إنما حصل بعد زيارة الموفد الاميركي السفير ديفيد هيل، فالأخير حمل معه رسائل قوية في اتّجاه إيران. صحيح انّ المواجهة المباشرة بين واشنطن وطهران غير واردة بدليل الانسحاب الاميركي من سوريا، إلّا أنها تؤشر الى مرحلة من الحرائق المتنقلة في الشرق الاوسط تسعى اليها واشنطن وبالتالي فأين الحكمة في «حشر» لبنان والمسيحيين في مرحلة ساخنة وحرائق متنقلة لا يوجد فيها منتصر.

المهم أنّ اجتماع بكركي فقد احد أبرز اهدافه قبل انعقاده وهو الصورة الجامعة. لكنّ لائحة الاهداف لا تتوقف هنا. فالازمة الحكومية باتت تهدد الكيان ووقودها نزاع الموارنة حول الاستحقاق الرئاسي المقبل. هذا النزاع الذي حطّ رحاله داخل قاعة بكركي بلباس «الثلث المعطل» للحكومة.

ولم يعد «التيار الوطني الحر» متحفِّظاً في طرح هدفه الحصول على «الثلث المعطل». في السابق كان ينفي بشدة هذا الهدف ولكنه اليوم يُعلنه من باب تعزيز أوراق رئيس الجمهورية والمسيحيين داخل الحكومة، فيما خصومه يضعونه في إطار تعزيز اوراق جبران باسيل لخلافة الرئيس ميشال عون في رئاسة الجمهورية.

وهؤلاء يتنوّعون بين مَن يجاهر بموقفه مثل تيار»المردة» الذي يرشح سليمان فرنجية ويعتبره صاحب الحظ الأقوى، وبين مَن يرفض وصول باسيل أيّاً تكن الاعتبارات ولكن من دون خوض معركة مُعلنة في هذا الاطار مثل «القوات اللبنانية» و«الكتائب اللبنانية».

هذا الفريق ليس مقتنعاً بحجّة «الثلث المعطل» لـ«التيار الوطني الحر» وحده لتعزيز اوراق المسيحيين، ولديهم حجّتهم في هذا الاطار: «الشيعة فريقان يؤمّنان معاً ميثاقية الجلسة وهي البدعة التي ثبّتها «التيار الوطني الحر» منذ «اتفاق الدوحة»، و«الثلث المعطل» لمصلحة المسيحيين مؤمَّن ما بين «التيار» و«القوات»، أو «التيار» و«المردة»، ولمَ لا بين الثلاثة معاً».

ويضيف هؤلاء: «إلّا أنّ «الثلث المعطل» بالتأكيد ليس مؤمّناً لإطلاق يد باسيل وفتح الطريق أمامه للوصول الى بعبدا». ويختمون قائلين: «عندها يُصبح «الثلث المعطّل» مصلحة شخصية وليس مصلحة عامة للمسيحيين».

وهذا النزاع الذي انفجر داخل قاعة الاجتماع الماروني يطاول فعلياً سببَ عدم حصول الولادة الحكومية.

ذلك أنّ أمام تمترس الأفرقاء الثلاثة (التيار يتمسّك بالثلث المعطل، والحريري بحكومة الثلاثين، و«حزب الله» بتمثيل «اللقاء التشاوري») فإنّ الحكومة عالقة، لا بل أصبحت في عالم الغيب.

وفي الهواجس التي باتت تُطرح بقوة في الكواليس والتي أفصح عنها البطريرك الراعي في الأمس بأنّ الأزمة الحكومية المستمرّة بلا أفق مضافة إليها أزمة اقتصادية ومالية على رغم التطمينات التي يُكثِر منها حاكم مصرف لبنان، واستتباعاً مزيداً من الاهتراء في مؤسسات الدولة ومفاصلها، فهذا سيعني انحداراً سريعاً في إتجاه نفق «المؤتمر التأسيسي».

وبالطبع لا تكفي البيانات ولا المواقف التي تصبح في هذه الحالة أُمنيات وصلوات في وقف هذا المسار الانحداري. ذلك أنّ الواقع سيكون أقوى من الجميع لنصل الى النتيجة المأسوية للمسيحيين وسط منطقة تشهد تبدّلاتٍ هائلة وتغييرَ أنظمة في سوق بيع النفوذ وشرائه.

وبسيط مَن يتسلّح بمنطق أنه لن يقترع لأيِّ تعديلات دستورية لاحقاً، فعلى سبيل المثال عام 1989 ومع إنطلاق أوّل قذيفة في ما عُرف بـ«حرب التحرير» بدأ التحضير للتعديلات الدستورية والتي وُلدت بعد أشهر في مدينة الطائف السعودية. يومها، أي في آذار 1989 كان المسيحيون في أوج قوتهم الدستورية والسياسية والعسكرية وكان الإعتقاد باحتمال قبولهم بتعديلات دستورية على حسابهم ضرباً من ضروب الخيال. لكنّ الواقع العسكري الصعب والتدمير الذي طاول مقوّمات المنطقة الشرقية من بيروت أوصل الجميع الى «اتفاق الطائف» كحلّ إنقاذي.

واليوم هنالك مَن يخشى مع استمرار الأزمة الحكومية وتفاقم الكارثة الاقتصادية ومن خلالها المالية، الانحدارَ سريعاً في مسار يؤدي بسرعة الى دستور جديد.

بعد انتهاء أعمال القمة الاقتصادية العربية سيعود الجدل الداخلي حول تشكيل الحكومة، والأمل الوحيد هو بتراجع احد الأفرقاء الثلاثة خطوة الى الوراء وللمسيحيين مصلحة كبيرة في تأمين ولادة الحكومة حتى ولو من خلال التنازل عن «الثلث المعطّل».

ثمّة احتمال آخر قد يؤدي الى دفع الأفرقاء الى التفاهم على تشكيلة حكومية وهو من خلال حصول حادث كبير سياسي أو مالي أو أمني يُجبِر الجميع على توليد هذه الحكومة.

ولكن اذا حصل هذا «الحادث الكبير» مَن يضمن أن تبقى المعالجة في اطار الولادة الحكومية فقط من دون وضع معايير وأعراف جديدة تكون ممهِّدة لواقع دستوري جديد.

فخرائط المنطقة مفتوحة ودساتيرها تخضع للمقايضات والحسابات، وهو ما يعني أنّ من الخطورة بمكان إدخال لبنان الى غرفة العمليات.

بعد القمة العربية لا بد من حسابات أكثر واقعية ومسؤولية ولا بدّ لهؤلاء النواب أن يقدّموا التزاماتهم للناس الذين انتخبوهم وأمّنوهم على مصالحهم، لا المسؤولين اللاهثين وراء حساباتهم الشخصية.