ابراهيم الأمين – الأخبار
زيارة هيل إلى بيروت لـ«شد ركاب» الحلفاء والضغط على الخصوم والجيش
لن يتغير الأميركيون. لم يحاسبهم أحد على جرائمهم. ولا تزال الضحية تبتسم عندما يطل القاتل برأسه. أصحاب الأوهام الأميركية في لبنان وسوريا وفلسطين وبقية المنطقة يعبّرون عن غضبهم جراء السياسات الأميركية تجاه مطالبهم، لكنهم لا يتراجعون عن اندفاعتهم لمزيد من الانخراط في اللعبة الأميركية.
الأميركيون يعرفون جيداً أن هذه الحكومات والجهات والشخصيات لا تملك قدرة ذاتية على إنتاج متغيرات. ولذلك، لا يشعر أي دبلوماسي أميركي بأي نوع من الضغط أو الحرج عندما يقرر التعامل مع هؤلاء، وعلى رأسهم فريق «ثورة الأرز» اللبنانية البائدة. ولا يجد المسؤول الأميركي نفسه مضطراً إلى بذل جهد وهو يعيد على مسامع من يلتقيهم العبارات إياها. ولا بأس في أن يقوم بنقد ذاتي، لكنه يستخدمه للحظات قبل مواصلة فوقيته في تلاوة الفرمانات!
ديفيد هيل في بيروت. الدبلوماسي الذي عرف لبنان وسياسييه جيداً، يحضر بدلاً من وزير خارجيته الذي لا يرى حاجة للمرور على بيروت في إطار جولته. لكن حتى لا يزعل «ناسنا هناك»، يُطلب إلى هيل التوجه إلى العاصمة اللبنانية سريعاً. وستكون السفارة في بيروت قد طلبت من عاملة الهاتف فيها إجراء سلسلة اتصالات مبرمجة، لتحديد جدول أعمال مليء باللقاءات المصنفة: رسمية لها جدول أعمالها وكلامها، سياسية عامة وفيها الخطب وعدّة النصب إياها، ولقاءات خاصة بعيدة عن الأضواء مع من يجب أن يستعدوا لمهمات إضافية… وبعد مغادرته، تتولى السفيرة إليزابيت ريتشارد (لا تزال بصفة مؤقتة منذ انتخاب دونالد ترامب) متابعة الحصاد. سيكون لديها زاد يكفيها لعقد العديد من اللقاءات وتسريب ما تيسّر من معلومات قالها هيل، أو تريد هي قولها، وسيستجيب لها وسط سياسي وإعلامي لا يزال مدهوشاً بالسياسات والسياسيين الأميركيين… علماً أن هيل، يسرّ في أذن ريتشارد وصيته الدائمة: «عليك تحمل ثقل دم هؤلاء. تجنبي الهزء بهم عند كتابة تقاريرك، لربما تسربت مرة جديدة».
جاء هيل، وفي جعبته كلام من نوعين: الأول يراد منه توضيح ما يصطلح على تسميته: شرح الاستراتيجية الأميركية في ضوء قرار الانسحاب من سوريا، وإعادة تثبيت جدول الأعمال الذي يخصّ حزب الله في لبنان وملف الحدود مع إسرائيل.
في القسم الأول، أتى هيل مهتماً بتقارير بعثت بها السفارة في بيروت عن أسئلة كثيرة تردها من حلفاء أميركا في لبنان تسأل عن المتغيرات على خلفية ما يجري في سوريا، لجهة قرار الانسحاب الأميركي والعودة السريعة لبعض العرب إلى دمشق. وتعبّر التقارير عن الخشية (نقلاً عن أحد أصدقاء السفارة) من أن بعض القوى السياسية من فريق 14 آذار تفكر في تعديل استراتيجيتها إذا كانت أميركا تريد مغادرة المنطقة وتترك لبنان لسوريا وإيران وحزب الله. وكان الدبلوماسي الأميركي حريصاً على «شدّ ركاب» جماعته. قال لكل من التقاهم إن واشنطن لا ترى موجباً لتطبيع العلاقات مع سوريا، وإن الحل السياسي لم يقم بعد، وكل تواصل الآن مع دمشق يعني تثبيتاً للنجاحات التي يحققها النظام هناك مع حلفائه الروس والإيرانيين. وأضيف: مسألة إعادة الإعمار ليست مطروحة الآن على جدول الأعمال، وهي تحتاج إلى قرار سياسي كبير، ولن يتخذ هذا القرار. إياكم الاندفاعة بحجة أن بعض العرب سارعوا إلى استئناف التواصل. ما حصل من بعض العواصم العربية كان خطأً ونعمل على تداركه، وستلاحظون قريباً أن هناك عودة إلى البرودة. والموقف في الجامعة العربية سيكون واضحاً بأنه ليس الوقت المناسب لعودة سوريا، وستتولى مصر والسعودية إنجاز هذا الأمر. ولذلك ليس من داعٍ لدعوة سوريا إلى القمة الاقتصادية.
هيل شرح أيضاً أن بلاده بصدد إجراءات قاسية ضد إيران وسوريا خلال القمة المرتقبة في بولندا. وهو وجّه دعوة رسمية إلى الرئيس سعد الحريري لتمثيل لبنان في هذه القمة. لكن مفاجأة هيل أن الحريري اعتذر عن عدم حضور هذه القمة، رافضاً المشاركة في أي لقاء هدفه فرض عقوبات على أطراف لبنانية، إذ يدرك الحريري أن أحد أهداف القمة هو فرض المزيد من العقوبات على حزب الله. وهو برر موقفه بأن لبنان لا يتحمل مثل هذه الخطوات وأن سياسة النأي بالنفس تفرض عليه هذا الموقف.
هيل أسهب أيضاً في تحذير من التقاهم من «التعامل مع النظام السوري بحجة إعادة الإعمار». قال مراراً إن العقوبات الاميركية ستتوسع إذا قررت جماعات أو شركات لبنانية مخالفة قرار العقوبات الدولية ضد النظام في سوريا. وإذا ما حصل تحدٍّ لنا، فإن العقوبات المنحصرة اليوم بحزب الله ومؤسساته وشخصياته قابلة للتوسع لتشمل جهات وشخصيات وشركات أخرى.
وبالإضافة إلى توسعه في الحديث مع قوى 14 آذار عن أن قرار الانسحاب من سوريا لا يعني تغيير الاستراتيجية تجاه دمشق، فإن هيل حثّ هؤلاء على رفع الصوت أكثر ضد أي محاولة للتطبيع مع سوريا، وذكّر أنصاره بضرورة عدم ترك حزب الله يرتاح داخلياً، معيداً على مسامعهم اعتبار الولايات المتحدة أن أنشطة الحزب في مجالي الصواريخ الدقيقة والأنفاق على الحدود باتت تهدّد الاستقرار بين لبنان وإسرائيل.
هيل كرّر أن بلاده التي لا تقدر على فرض وقائع خاصة، لن ترحب بتولي حزب الله وزارات أساسية في الحكومة الجديدة. لم يتطرق فعلياً إلى الملف الحكومي، ولكنه لمّح إلى أن واشنطن قد تفكر في عقوبات أو إجراءات خاصة تجعل المواطنين يتضررون من وجود وزير لحزب الله في وزارة الصحة. وقال صراحة إن بلاده لا تريد للحزب أن ينجح في إدارة وزارة حساسة مثل الصحة.
وفي ملف النازحين السوريين، قال إن ما يحصل اليوم على صعيد العودة لا يمثل تحولاً جدياً. وأبلغ بصورة أوضح من يتولى الملف: أن قرار عودة النازحين مثل قرار إعادة الإعمار، يحتاج إلى وضعية مختلفة. لكنه سمع في ملفي النازحين والعلاقات مع سوريا كلاماً لم يعجبه، خصوصاً ما قاله له وزير الخارجية جبران باسيل، من أن لبنان يتعامل مع سوريا على أساس أنها عمقه الطبيعي، وأن لبنان يجب أن يكون شريكاً في عملية إعادة إعمار سوريا، ولا يمكن لبنان انتظار الآخرين حتى يتصرف في هذا الملف. وشدّد باسيل، في ملف النازحين، على أنهم يشكلون مشكلة اقتصادية وأمنية وسياسية، عدا عن أن ظروف إقامتهم سيئة للغاية، وهم يقدرون على العودة إلى بلادهم، خصوصاً أن غالبيتهم أتت من مناطق لم تعد تشهد أي نوع من الحروب، كذلك فإن الحكومة السورية تساعد الذين يعودون في ترتيب أمورهم.
في الملف المالي، توضح مصادر على صلة بمجريات الزيارة أن حاكم مصرف لبنان لم يكن مرتبكاً إزاء الحديث عن ملف العقوبات المالية. قال رياض سلامة إن وضع لبنان المالي يتيح له مواجهة الأزمات القائمة. وأسهب في شرح ما قام به المصرف المركزي لمواجهة الضغوط على العملة الوطنية أو لإزالة ما سمّاه «الآثار السلبية لتصريحات وزير المال علي حسن خليل حول إعادة هيكلة الدين العام». لكن سلامة يقول إن الأميركيين باتوا على قناعة بأن ما يقوم به لبنان على صعيد مكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، يفوق ما تقوم به دول كبيرة في العالم، وأنه لا يمكن الضغط على لبنان وعلى المصارف أكثر. وأن لبنان لن يقدر على التزام عقوبات لمجرد الشبهة، ومن يُرِد خطوات عقابية بحق أحد، فعليه أن يقدم الإثباتات الكفيلة بتجريم المتهم.
ملف الحدود
الكل يعرف أن لهيل مهمة رسمية في بلاده تتعلق بملف ترسيم الحدود بين لبنان وكيان العدو. وهو على تواصل مع الجهات اللبنانية والإسرائيلية والدولية العاملة على هذا الملف. ويحاول بصورة دائمة تحصيل مطالب العدو. وبعد فشل المحاولات السابقة لتكريس وجهة نظر إسرائيل بما خص الحدود البحرية، ولا سيما ما يتعلق بالمناطق الاقتصادية، جاء هذه المرة يقترح تشكيل لجنتين (واحدة تتولى دراسة ملف الحدود البرية، وأخرى للحدود البحرية)، وإعداد تفاهم على خط حدودي موحد بري وبحري. وقال إن بلاده تدعم التوصل إلى ترسيم الحدود الدولية بين إسرائيل ولبنان وإعلان بطلان العمل بالخط الأزرق.
بحسب البعض، إن هيل لم يسمع معارضة قوية من بعض من التقاهم. لكن الرئيس نبيه بري كان واضحاً ومسهباً في الشروحات، لناحية أن المشكلة تتصل أولاً بكون الحدود البرية تؤثر بقوة في رسم الحدود البحرية، وإن الخلافات على الحدود البرية قوية، ولذلك الأفضل هو العمل على إنهاء ملف الحدود البرية ضمن سلة واحدة تحسم أيضاً ملف الحدود البحرية. وأكّد بري أن لبنان لن يقبل بعملية تبسّط الأمر وكأنها مسألة نقاط فقط، وسيأخذ كامل وقته في حماية حقوقه وحدوده. وفهم هيل أن اقتراحه غير مرحب به.
يهتم ديفيد هيل كما جميع قيادات بلاده ببناء علاقة خاصة مع الجيش اللبناني. لا يحتاج من السياسيين اللبنانيين من يساعده على التواصل المباشر مع قيادة الجيش. وهو يستمع إلى آراء بعض هؤلاء حول تطور قوة الجيش ومدى استعداده لمواجهة نفوذ حزب الله.
ما يهم في خلفية زيارة هيل لبيروت بشأن العلاقة مع الجيش، تعزيز القناعة لدى قيادة الجيش اللبناني، بأن تعاونها الكامل والمستمر مع واشنطن سيوفر لها الدعم العسكري الدائم. لكن الولايات المتحدة تستمع إلى تقارير إسرائيلية تفيدها بأن الجيش لا يزال خاضعاً لنفوذ حزب الله. حتى إن بعض السياسيين اللبنانيين يحرّضون الأميركيين على ضرورة أن يؤدي الجيش دوراً أكبر في الضغط على حزب الله. وينطلق هؤلاء من اعتبار أن الحزب يستقوي عليهم بسلاحه.
لقيادة الجيش رأي في العقوبات الأميركية المباشرة على حزب الله. حتى إن قائد الجيش العماد جوزيف عون، قال لهيل كما قال قبلاً لمسؤولين أميركيين، إن هذه العقوبات لا تفيد في إضعاف الحزب. لكن قيادة الجيش فوجئت بطلبات أميركية من نوع أن عليها القيام بإجراءات لمنع وجود أي تأثير للحزب داخل الجيش. الأميركيون يتحدثون عن ضرورة قيام الجيش بإجراءات تمنع التواصل القائم بين ضباط في المؤسسة وبين حزب الله. ومع أن قيادة الجيش تحدثت عن أنها تعمل على منع أي تدخل سياسي في عمل المؤسسة العسكرية، فهي تكرر أن فكرة منع التواصل المباشر قد تكون مستحيلة في ظل الروابط الاجتماعية التي تربط عدداً غير قليل من الضباط بأفراد من عائلاتهم، ربما هم من حزب الله. لكن الأميركيين صاروا أكثر صراحة: نريد وقف التعاون الأمني مع حزب الله!
طبعاً، يظهر الأميركيون ارتياحهم إلى توسّع إطار التعاون المباشر والعملاني بين الجيش وقيادتهم العسكرية في المنطقة. ويعبّرون عن تقديرهم لسماح الجيش لضباط أميركيين بالحضور في قواعد عسكرية لبنانية، وفي المشاركة في الاطلاع على عمليات ومناورات. ومن جهة ثانية، يبدو أن الأميركيين مرتاحون إلى قرار قيادة الجيش عدم التعاون مع فرنسا عسكرياً، ولا حتى أمنياً، ولا سيما في ملف أفواج الحدود وأبراج المراقبة التي بات التعاون بشأنها محصوراً مع الجانبين الأميركي والبريطاني، برغم أن الاستخبارات الفرنسية تبذل جهداً كبيراً لحجز مكان لها في هذا الملف، وتحاول أيضاً أن تكون حاضرة أكثر على جبهة الحدود الجنوبية، حيث يؤدي الضباط الفرنسيون دوراً واضحاً في دعم مطالب العدو، سواء في ملف ترسيم الحدود أو بناء الجدار الإسمنتي أو حتى ملف الأنفاق، بالإضافة إلى عودة الفرنسيين إلى لعبة جمع المعلومات عن مواقع حزب الله.