نقولا ناصيف – الأخبار
جدولا أعمال متباينان رافقا محادثات السفير دافيد هيل في بيروت في الأيام الثلاثة المنصرمة. واحد هو الرسائل التي حملها إلى المسؤولين اللبنانيين عمّا تريده إدارته منهم، وآخر لا يمتّ بصلة إلى الأولين سمعه منهم عمّا يعني لبنان
استبقت السفارة الأميركية في بيروت محادثات وكيل وزير الخارجية للشؤون السياسية دافيد هيل، مع المسؤولين اللبنانيين، في البيان الذي أصدرته مع إعلان وصوله السبت، كي تشير إلى أن الزائر «صديق» قديم. منذ مطلع التسعينيات عمل في العاصمة اللبنانية، على نحو متقطع، مسؤولاً سياسياً ثم نائباً للسفير عام 2000 قبل أن يُمسي السفير ما بين عامي 2014 و2016. ومع أن جدول أعمال الأيام الثلاثة لم يُنظر إليه على أنه «صديق»، طبقاً للمواقف التي أوردها بيان السفارة، ثم تصريح هيل من ثم المطابق لها بعد مقابلته الرئيس المكلف سعد الحريري البارحة، أورد بعض المطلعين على تحرّك الزائر الأميركي، ممن عرفوه قبلاً، الملاحظات الآتية:
أولاها، رغم أن المسؤولين اللبنانيين تبلغوا مواعيد استقبالهم هيل منذ الخميس الفائت، إلا أن توقيت الزيارة ارتبط على نحو مباشر بالجولة العربية لوزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو، حاملاً معه إليها الملف الإيراني وتقويض دور طهران في المنطقة، وخصوصاً في سوريا ولبنان. بذلك، عُدّت زيارة هيل تعويض الزيارة الأم، مع أن أكثر من نظير وسلف لبومبيو زار بيروت قبلاً، كجون كيري في الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما في 4 حزيران 2014، ومن قبل هيلاري كلينتون في الولاية الأولى لأوباما في 26 نيسان 2009، ناهيك بأكثر من زيارة لكوندوليسا رايس في الولايتين الأولى والثانية للرئيس جورج بوش في عزّ الانفجار بين فريقي 8 و14 آذار عامي 2005 و2006، وخصوصاً إبان حرب تموز وبعدها.
ثانيتها، مع أن المسؤولين اللبنانيين توقّعوا سلفاً ما سيثيره هيل معهم، وخصوصاً بإزاء حزب الله وعلاقته بإيران، وما يحسبه الأميركيون تهديداً لاستقرار لبنان والمنطقة، وبصورة أخص إسرائيل في ضوء حملة الأنفاق الأخيرة، إلا أن الإشارة التي لمسوها من مجيئه هو بالذات، أعطت إيحاءً إيجابياً بأن الرجل الزائر – العائد سيقابل السياسيين اللبنانيين الذين عرفهم عن كثب منذ مطلع التسعينيات، وقبل أن يغادر سفارة بيروت عام 2016. بعض الذين عرفوه يتحدثون عن انطباعين أخيرين علقا في أذهانهم: أولهما علاقته غير الوطيدة بالرئيس ميشال عون قبل انتخابه رئيساً للجمهورية عام 2016، ولم يكن من محبذي وصوله إلى هذا المنصب، وثانيهما تحمّسه لمبادرة الحريري في تشرين الثاني 2015، ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. حجته آنذاك ضرورة استعجال إنهاء الشغور الرئاسي بأي ثمن، وانتخاب رئيس وإن من قوى 8 آذار ما دام يطمئن الحريري. عندما تحدّث معه أحد أصدقائه اللبنانيين عن سبل دعمه وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، اكتفى بالجواب الآتي: «أمضيت تسعين دقيقة أتحدث مع أخي هاتفياً حيال سبل مساعدة والدتنا الثمانينية».
ثالثتها، بدا لبعض من تلقف زيارة هيل لبيروت أن مجيئه هو بالذات، من شأنه تجنيب الإدارة ورئيسه وزير الخارجية مطبات تنشأ عن «سوء تعبير» ينجم بدوره عن الإدلاء بالمواقف المتشددة. بسبب معرفته الوطيدة بالسياسيين اللبنانيين في فريقي 8 و14 آذار وأسلوب التخاطب معهم، يسع هيل إيصال الرسائل الأميركية، المتشددة في أي حال، على نحو لا يفضي إلى ردود فعل متباينة. يتيح له ذلك الإصغاء إلى الشروح المتباينة للأفرقاء اللبنانيين الذين لا يزالون على الانقسام نفسه الذي عرفه فيهم. دور كهذا لا يسع الوزير ربما القيام به، أو امتلاكه الوقت الكافي للاستماع إليه حتى، وبالتأكيد تقبّل تبريره.
فالرجل الذي قارب الملف اللبناني، بتقطع، طوال عقد ونصف عقد من الزمن، بدءاً بالحقبة السورية ثم مرحلة الانقسام ما بين قوى 8 و14 آذار، انتهاءً بمرحلة ما بعد اتفاق الدوحة حتى عشية انتخاب الرئيس ميشال عون، لم يكتفِ بالمروحة الواسعة من الصداقات اللبنانية، بل أضحى أقرب إلى سجل تأريخي لتعاقب التحولات اللبنانية تلك. وخلافاً لثلاثة من أسلافه منذ عام 2005، هم جيفري فيلتمان وميشال سيسون ومورا كونيللي – والأخيرتان حاولتا أن تكونا صورة طبق الأصل عن الأول بالتشدد والتصلب – قاربوا الملف اللبناني بانحياز حاد ما بين عامي 2005 و2014 ومالوا إلى تبرير أفعال قوى 14 آذار والدفاع عنها، أدخل هيل مع وصوله سفيراً إلى بيروت تعديلاً في التعامل معه، في الأسلوب على الأقل. فكان الأقل بين أولئك يطلق تهديدات ويهوّل وينذر، منفتحاً على الأفرقاء جميعاً، من غير أن ينقطع عن زيارة عون إبان ترؤسه تكتل التغيير والإصلاح.
لم يشر هيل إلى أن واشنطن تعارض وجود حزب الله في حقيبة حيوية كالصحة
رابعتها، أن من الوهم الاعتقاد أن الاجتماع بشخصية مألوفة يقلّل من أهمية الرسائل التي حملها معه، خصوصاً أنه تناول في تصريحه بعد مقابلته الحريري مواضيع ثلاثة محددة تتصل بلبنان مباشرة: تأكيد إدارته المضي في منع إيران من البقاء في سوريا ولبنان و«تعريضها الاستقرار الإقليمي للتقويض»، تكرار اتهامه حزب الله بالإرهاب، تلميحه إلى الصورة التي تريد إدارته أن ترى الحكومة اللبنانية الجديدة عليها رغم تشديده على أنها لا تتدخل في شأن داخلي كهذا، بيد أنها معنية بـ«نوع الحكومة المختارة». مع أن عبارة كهذه لا تنطوي على أي غموض، إذ تعني رفض إدارته «حكومة حزب الله»، لم يشر هيل من قريب أو بعيد إلى ما شاع داخلياً، إبان تكليف الحريري، أن واشنطن تعارض وجود حزب الله في حكومته، كما في حقيبة حيوية كالصحة.
لكن البعد الآخر في زيارة هيل، تأكيده أن الإدارة الأميركية جدية في ممارسة ضغوطها على إيران، ما يضع لبنان تحت مجهر المراقبة، وتالياً التأثر بتداعيات تلك الضغوط الملازمة للعقوبات على الإيرانيين والحزب معاً، في ضوء ما يعدّه الأميركيون تفاقم أدوار حزب الله في الداخل وفي الجوار. في جانب من مضمون رسائله، وأُدرجت في سياقها، زيارته وزير المال علي حسن خليل. وهي من المرات النادرة يقوم مسؤول سياسي أميركي في منزلة رفيعة كهيل، يحتل المرتبة الرابعة في سلم الخارجية الأميركية بعد الوزير ونائبيه للسياسات العامة والإدارة، ويتقدّم مساعد الوزير لشؤون الشرق الأوسط، بمثل هذه الزيارة. إلا أن تصريحه من بيت الوسط لم يفرّق تماماً بين المشكلات التي يتخبط فيها لبنان، دامجاً رفضه حزب الله والاتهامات التي ساقها إليه وإلى ترسانته بمواصفاته للحكومة وصولاً إلى حديثه عن الأعباء الاقتصادية الثقيلة وحاجة هذا البلد إلى الإصلاحات الملحة التي يتطلبها.