جوني منيّر – الجمهورية
حاجة لأيّ جهد للاستنتاج بأنّ الافق مقفل أمام ولادة الحكومة العتيدة. وخلال المرحلة الاخيرة، تساءل العديد من المراقبين عن السبب الحقيقي الذي يقف حائلاً امام تشكيل الحكومة.
حين طرح اسم جواد عدرا، ساد انطباع عام بأنّ التفاهم حصل، وانّ الجميع دفع الأثمان وانّ ساعة الولادة قد حانت. فأن يضغط «حزب الله» على اعضاء اللقاء التشاوري للقبول بعدرا رغماً عنهم ما أدى الى توجيه ضربة معنوية لهم، فهذا يعني انّ قيادة الحزب حزمت أمرها. وأن يبارك رئيس الجمهورية الاتفاق الذي حمله مدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم ووافق عليه الرئيس المكلف سعد الحريري، فهذا يعني انّ جميع شروط الولادة قد تأمنت.
لكن ما لم يكن مفهوماً أن «تخرج الشياطين» في اللحظة الاخيرة حول تبادل جديد للحقائب واعلان «مبكر» لالتزام جواد عدرا بكتلة لبنان القوي من دون سواها، ما أدى الى تمزيق اوراق التشكيلة الحكومية التي كانت تنقصها التواقيع فقط.
واذا كان الجميع متفقاً فعلاً على ضرورة الولادة، فلماذا طرح تبادل للحقائب في اللحظات الاخيرة؟ والاهم انه كان يمكن «النوم» على التفاهم الذي كان نُسج بين الوزير جبران باسيل وجواد عدرا وترك الكشف عنه الى ما بعد الاعلان عن الحكومة او حتى يمكن تركه الى ما بعد نيلها الثقة، وهو ما حصل مراراً في تاريخ التكتلات السياسية والحزبية، فلماذا الاصرار على كشف الاتفاق سلفاً في وقت يدرك الجميع انه سيؤدي الى نسف ولادة الحكومة؟
صحيح انّ العواصم الغربية غير مهتمة بتاتاً بالتفاصيل اللبنانية كونها منشغلة بالتطورات الهائلة في الشرق الاوسط، الّا انّ السفارات الغربية، والتي تتابع التفاصيل اللبنانية بحكم مهامها، ما برحت تتساءل عن الاسباب الفعلية لظهور العراقيل والتي تقف حائلاً دون ولادة الحكومة.
فالصورة الحكومية تبدو محشورة بين الثلاثي «حزب الله» وجبران باسيل وسعد الحريري.
فالحزب التزم بشكل نهائي بتمثيل اللقاء التشاوري بمقعد وزاري، وهو جدّد التزامه ولكن بصيغة اكثر صرامة وشدة بعد «سقطة» اختيار جواد عدرا حيث كاد اللقاء التشاوري ان «يفرط» وان يدفع «حزب الله» ثمناً سنياً غالياً، وبالتالي فهو بات امام نظرة جديدة تمنح هذا اللقاء دوراً أوسع مستقبلاً، لا «فرطه» كما كاد ان يحدث.
امّا رئيس التيار الوطني الحر فهو ردّد في لقاءاته الخاصة، خلال استراحة رأس السنة في منزله في اللقلوق، بأنه لن يتنازل أبداً عن حصة الـ 11 وزيراً بأي شكل من الاشكال، مُبدياً ثقته بأنه سينال مبتغاه في نهاية الامر. وفي خطوة تعكس رضوخه بتمسّك «حزب الله» بمقعد وزاري لحلفائه اعضاء اللقاء التشاوري، ركّز باسيل هجومه على الرئيس سعد الحريري كحلّ للمعضلة الحكومية وعلى أساس التراجع عن قرار تبادل الوزيرين المسيحي والسني بين قصر بعبدا وتيار المستقبل والانسحاب من المشكلة السنية باعتماد خيار حكومة الـ 32 وزيراً.
وفي الرواية الثالثة من مثلّث الولادة الحكومية، يقف الرئيس سعد الحريري بأداء جديد، فهو ليس بوارد تمثيل اللقاء التشاوري من حصته بعد ان كان قد وافق بأن يكون تمثيلهم من حصة رئيس الجمهورية. فهو خرج مُثخناً بالجراح من انتخابات نيابية صعبة كشفت له ابتعاد جزء لا بأس به من الشارع السني عنه، إضافة الى تراجع بريقه السياسي.
وهو بعد كل ما أعلن لم يعد بوسعه التراجع الى الوراء ولو خطوة واحدة كونه سيخاطر بالسقوط، كما انّ صيغة الـ 32 وزيراً بالنسبة له تعني الشروع في تغيير وجه السلطة مع إعطاء المسيحيين والشيعة مقعداً إضافياً لكل منهم على اعتبار انّ العلويين في خانة الشيعة، وهو ما سيفتح الباب لاحقاً امام تعديلات في اساس تكوين السلطة. أضف الى ذلك حذره من تجدد الغضب السعودي.
وخلال تواصله مع حلفائه، ومنهم وليد جنبلاط وسمير جعجع، قال الحريري إنه لن يرضخ لحكومة الـ 32 وزيراً ولو قامت القيامة، لأنّ فيها قرار إعدامه سياسياً.
أمّا من يدورون في فلك بيت الوسط، فقالوا انّ البلاد انتظرت سنتين ونصف السنة وسط فراغ رئاسي قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وانّ فترة المشاورات الحكومية لم تتجاوز بعد السبعة أشهر.
السفارات الغربية تبدو متّفقة على انّ الحل الوحيد لإنجاز الولادة الحكومية هو من خلال تنازل رئيس الجمهورية عن الوزيرالسني من الحصة الرئاسية، وهو ما كاد ان يتحقق اكثر من مرة لولا تدخّل الوزير باسيل في اللحظات الاخيرة.
وقرأت هذه السفارات بكثير من التمعّن هذا التناغم «الخَفي» بين الحريري و«حزب الله»، ولو انه يجري حجبه باشتباك إعلامي بين حين وآخر. فحين اندفع رئيس الجمهورية لتوجيه رسالة الى مجلس النواب كانت ستؤدي الى إحراج الحريري، فإنّ «حزب الله» والرئيس نبيه بري عملا على وضع حاجز حماية أمام الحريري وأجهضا المحاولة الرئاسية.
لكن لهذه السفارات الغربية قراءة أخرى تدفعها للحيرة من السياسة التي يتّبعها باسيل، ذلك انّ امام الحكومة المقبلة برنامج عمل حافلاً، اهم بنوده على الاطلاق:
– اولاً، إعادة تحريك ملف النازحين السوريين خصوصاً انّ معظم الدول تريد إبقاءهم في لبنان، وهو ما قاله بصراحة ووضوح امين سر دولة الفاتيكان للوفد اللبناني الذي زاره، ما يعني انّ عدم وجود حكومة يساعد في تغييب هذا الملف، امّا في حال تشكيل حكومة فإنّ ضغطاً لبنانياً معاكساً لا بد ان يحصل، ويعيد تحريك الملف.
– ثانياً، العمل على معالجة الازمة الاقتصادية الخطيرة والتي تكاد تخنق لبنان، وبالتالي التقاط فرصة «سيدر» قبل ضياعها (وهي تكاد تضيع) والاستفادة من استثماراتها وإنجاز الاصلاحات المطلوبة والمتفق عليها.
– ثالثاً، تأمين الاستقرار السياسي الداخلي المطلوب لمواكبة التغييرات الاقليمية الهائلة التي تحصل، والتي تخفي في طيّاتها تعديلاً في الخرائط الديموغرافية، كما في إحداث تكوين جديد للسلطات في أكثر من مكان وأكثر من دولة قريبة أو بعيدة.
ومعه تسأل هذه السفارات عن المصلحة اللبنانية وخصوصاً المسيحية في عدم ولادة الحكومة وما اذا كانت مسألة وزير إضافي تستأهل ترك اللبنانيين، ولاسيما المسيحيين، مكشوفي الرأس وعرضة لمخاطر حتمية تهدد حضورهم في لبنان، الذي يعدّ آخر موطئ قدم لهم في هذا الشرق.