خبر

خلاف التيار وحزب الله: أثمان الخطاب الطائفي

هيام القصيفي – الجمهورية

 

 

يتعدى الإشكال الأخير بين حزب الله والتيار الوطني الحر عتبة الخلاف السياسي بين حزبين حليفين، أو حتى خصمين. فالحياة السياسية في لبنان شهدت وقائع مماثلة في محطات عدة، وأمثلة مشابهة وقعت أخيراً، كما حصل بين التيار الوطني والقوات اللبنانية أو القوات والمستقبل. لكن خصوصية هذا الإشكال تكمن في أنه للمرة الأولى منذ سنوات طويلة يتحول الخلاف السياسي إلى خلاف بين جمهورين، مسيحي وشيعي، بالمعنى العريض. هذه واحدة من تجليات معركة تشكيل الحكومة.

الانفجار الطائفي
تمخضت مفاوضات الحكومة عن ارتفاع اللغة الطائفية وتنامي مفردات المذهبية والطائفية إلى حد بات يعيد التذكير بأيام الحرب. الأكيد أن معظم الأحزاب الرئيسية اليوم باتت أحزاباً طائفية بمعنى الانتماء الديني، لا سيما أن خطاب القوى السياسية الطائفي تركز بعد 1990، على قاعدة غالب ومغلوب وتحصيل حقوق وهدر أخرى. وتنامى هذا الانقسام تدريجاً بعد عام 2005 ومن ثم مع المطالبات المتكررة باستعادة الحقوق المسيحية، والتمسك في المقابل بحقوق الطوائف الأخرى التي أصبحت حقاً مكتسباً بحسب الدستور والممارسة السياسية لسنوات. لكن هذا الخطاب بدأ يتعمم في المرحلة الأخيرة، لأن اللغة المستخدمة لا تتحدث عن حقوق وواجبات وعن دولة ومواطن، بل عن المطالب بين مسيحيين وسنة وشيعة ودروز وأرمن وكاثوليك وأرثوذكس. وهذا لا يعني أن الانقسام الطائفي كان اندثر في لبنان، لا بل أن الواقعية كانت تفترض أن تسمى الأشياء بأسمائها. فلا القوات، مثلاً، حزب مختلط، ولا حزب الله كذلك. لكن على الأقل كان هناك بعض الخجل والتستر خلف عناوين أحزاب سياسية ومطالب سياسية عامة. لكن منذ الانتخابات وصولاً إلى مفاوضات تأليف الحكومة والخطاب السياسي الطائفي يرتفع بقوة. حين يتحدث النائب فيصل كرامي على رغم خلافه مع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، عن صلاحيات رئيس الحكومة، لا يتحدث عن صلاحيات رئاسة الحكومة بالمعنى الدستوري والقانوني، بل عن صلاحيات الزعيم السني. وحين يطالب رئيس التيار الوطني الحر بمقاعد مارونية (عدا عن حصة 11 وزيراً وما تمثله من وزن سياسي لرئيس الجمهورية كرئيس ماروني قوي)، وحين يطالب الثنائي حزب الله وحركة أمل، بتوقيع وزير المال الشيعي، وبحصة لسنة 8 آذار، فهذا يعني أكثر من مجرد تقاسم حصص سياسية أفرزتها الانتخابات. مفهوم النسبية ذاب ذوباناً كاملاً في المحاصصة الطائفية التي جرت في الآونة الأخيرة. من هنا كان من الطبيعي لهذه اللغة الطائفية التي كادت تختفي في مرحلة سياسية بعد عام 2005 نتيجة ظروف معروفة، أن تؤدي إلى المشهد الجديد الذي نراه اليوم بين التيار الوطني وحزب الله.

حزب الله والتيار: ثمن حصرية العلاقة
لم تشهد الحرب اللبنانية مواجهة بالمعنى العسكري والعملي بين جمهورين مسيحي وشيعي، على مثال ما شهدته بين مسيحيين وسنّة، ومن خلفهم الفصائل الفلسطينية، أو بين مسيحيين ودروز كما الحال في حرب الجبل 1982. أما 6 شباط 1984 فلها ظروف مختلفة لها علاقة بالجيش اللبناني آنذاك وبأداء الرئيس أمين الجميل، وحوادث التهجير في مناطق أصبحت ذات أغلبية مسيحية وشيعية، كانت من ضمن حروب عسكرية أوسع مدى من حرب طائفية مباشرة. وهذا ليس تبريراً لفئة شاركت في الحرب كغيرها. حتى الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 لم يترجم المخاوف في مناطق الشريط الحدودي من أي احتكاك مسيحي – شيعي.
جاء تفاهم مار مخايل عام 2006 ليعكس جزءاً من هذا الواقع، إضافة إلى الشق السياسي المحلي والاستراتيجي لعنوانه العريض، لكنه أيضاً بدا وكأنه في مكان رد على التفاهم بين فريق مسيحي من 14 آذار مع القوى السنية الرئيسية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. في 2005، تصالحت القوى المسيحية الرئيسية من القوى المناهضة للوجود السوري، مع غالبية السنّة، الذين كانوا جزءاً أساسياً من تركيبة النظام السوري في لبنان، وشركاء في تنفيذ «الطائف السوري»، وساهموا عملياً في إبعاد القوى المسيحية عن الحكم. بين 2005 و2006 انقسم المسيحيون، والموارنة تحديداً، بين فريقين. أحدهما حالف الغالبية السنية، والآخر حالف الغالبية الشيعية. وكلا الفريقين استفاد من حليفه المسيحي والعكس صحيح أيضاً.
الإشكال الأخير بين التيار وحزب الله، ليس الأول، لكنه الأكثر كلفة بالمعنى العملي للفريقين. وهو لا يشبه الخلاف بين تيار المستقبل والقوات في لحظة سياسية حرجة، خصوصاً أن القوات حينها كانت تتمتع بدعم سعودي واضح. خلاف اليوم، ينعكس على جمهورين بالمعنى السياسي، يحدث للمرة الأولى. فقضية لاسا على رغم كل عوراتها وحساسيتها المسيحية، كما قضية مشاع العاقورة، لم تنقلب خلافاً مسيحياً شيعياً في الشكل الذي ترجم في الساعات الأخيرة. وهذا الأمر يتعدى مجرد ملاسنة كلامية وتبادل التجريح والتخوين. لأنه بدأ يُخرج إلى العلن كلاماً طائفياً ويعيد الاصطفاف الطائفي إلى الواجهة، ولأن استمرار الخلاف سيوسّع قاعدة المسيحيين المعارضين لحزب الله، في مشهد جديد لم يكن مألوفاً منذ انفضاض جمع 14 آذار. وهنا قد يكون خطأ حزب الله في إبقاء حصرية علاقته مع التيار، كطرف مسيحي، بغض النظر عن التوافق السياسي الذي جمع بينهما، بعدما أقفل الباب أمام علاقته السياسية المسيحية الأخرى. فحتى حليفه رئيس تيار المردة سليمان فرنجيه دفع في مكان ما ثمن هذه الحصرية. علماً أنه في عز الوجود السوري، ظلت علاقة الطرف الشيعي بالمسيحيين متشعبة وقوية في مفاصل كثيرة، حين فتح الرئيس نبيه بري قنوات مع بكركي والتأمت لقاءات مونترو بفعل العلاقة مع لقاء قرنة شهوان. واليوم يحتاج الحزب إلى حليف أو شريك أو على الأقل إلى حوار مع المسيحيين، لأن أي حزب مهما بلغت قوته يحتاج في الداخل إلى من يتحاور معه.

إخراج الحكومة من دون تسرع
في التطبيق السياسي والعملاني للتوتر بين الحزبين، من المنطقي القول إن من مصلحة الطرفين وأد الخلاف بينهما، من دون أن يعني ذلك أن حزب الله سيتخلى عن تشدده في الشق الذي يعنيه من الحكومة، وهذا يفترض أن يكون إخراج الحل مقبولاً على الأقل في الشكل، فلا يشكل إحراجاً للتيار بعدما رفع سقف خطابه ومطالبه وشروطه. والأهم عدم المبالغة والتسرع كما حصل في الأيام الماضية.
يمكن وفق ذلك حصر الخلاف وتأججه برسم مرحلة سياسية بعدة شغلها وخلافة الرئيس ميشال عون والتحضير لترشيح الوزير جبران باسيل للرئاسة الأولى التي لا يتعهد الحزب لأي طرف من الآن بها، على عكس ما حصل مع عون. لكن المشكلة أن الخلاف مع باسيل لم يعد سياسياً فقط. علماً أن باسيل في معاركه الداخلية والخارجية يتكئ على عون وحلفه مع حزب الله كغطاء شرعي له. لذا كان رد عون الفوري العلني مرتين، على الحزب حين انتقل الخلاف من العام إلى المس بباسيل مباشرة.
لم يكن رئيس التيار أكثر وضوحاً في ما يقوله علناً، ولو كان يحمل تناقضات بالنسبة إلى البعض، لأنه موجود في موقع فيه الكثير من الالتباسات. لا يقول باسيل سراً ما لا يقوله علناً. حين كان وزيراً للطاقة عقد مؤتمراً صحافياً قال فيه إن المسيحيين يدفعون فواتير الكهرباء ولا يدفع المسلمون منها إلا قلة. في كل كلامه السياسي الانتخابي وداخل التيار يتحدث عن مصلحة المسيحيين وعن الرئيس المسيحي القوي. هو نفسه الذي يطالب بلوحة عن جلاء الجيش السوري، ويمتن علاقته بالحريري إلى أقصى درجة ويريد فتح قنوات واسعة مع الولايات المتحدة، ويلتزم من الجنوب ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة. ويقول ما لا يقوله رئيس الجمهورية الذي يتمسك بناء على نصائح غربية عدة بالقرار 1701 الذي يحمي لبنان والجيش معاً.
لكن كل التناقضات التي يحملها في كفة وإخراج مشكلة الحكومة في كفة أخرى، لأنها هي التي ترسم بتطبيقاتها العملية المرحلة المقبلة. إذا كان حزب الله يريد الحكومة اليوم بأي ثمن، ولا سيما في اللحظة الإقليمية الحالية بكل ما تحمل من توترات وضغوط مقبلة بسبب العقوبات التي لا يستهين الحزب بها أبداً، فهو لا يستطيع إخراج الحكومة التي يريد بسبب موقف باسيل. وباسيل المتهم بأنه يلعب بالنار، لن يستطيع البقاء في دائرة المراوحة قبل أن يضطر إلى القبول في نهاية المطاف بالحكومة كما يراها الحزب. أما الثلث المعطل، فالحصول عليه لن يكون سهلاً، لأن معارضي باسيل في هذه النقطة، لا يقتصرون على حزب الله. فالحريري أول من يدفع ثمن هذا الثلث، وخصوم باسيل المسيحيون أيضاً، وهم الذين يتلطون اليوم وراء حزب الله لمنعه من الحصول عليه.