جوني منيّر – الجمهورية
من حق اللبنانيين أن يفرحوا بقرب الاعلان عن الحكومة المقبلة، فالواقع الاقتصادي صعب لا بل كارثي، بدليل انّ كانون الاول، الشهر الذي يشهد ذروة الحركة الاقتصادية، لا يشهد انكماشاً فقط، بل إغلاق مؤسسات بداعي الإفلاس.
الأكيد أنّ تشكيل الحكومة سيمنح اللبنانيين دفعاً معنوياً يؤدي الى تحريك العجلة الاقتصادية لِما تبقّى من موسم الأعياد، لكنّ الآمال قد لا تعمّر طويلاً، ذلك انّ إجراءات مصرف لبنان، القاضية برفع الفائدة الى مستويات خيالية بهدف امتلاك السيولة لتأخير أمد الانهيار المالي، أدّت عملياً الى تجميد العجلة الاقتصادية.
وهي أثمرت شراء الوقت، ولكن بكلفة باهظة. إضافة الى ذلك، إنّ التوقعات حول الحكومة الجديدة تعطيها صفة «حكومة المتاريس» لا حكومة الإنجازات، وهذا ما بَدا خلال مشوار تأليفها الصعب، أضف الى ذلك انها ستحاكي استحقاقات داخلية عدة، أبرزها على الاطلاق استحقاق رئاسة الجمهورية، والذي كان حاضراً ورقماً أساسياً في حسابات الأفرقاء خلال الاشهر السبعة الماضية، ولو انّ جميع القوى السياسية تنفي ذلك في العلن.
في الواقع، هناك 3 مرشحين رئاسيين يعملون ويحضّرون للاستحقاق الرئاسي المقبل، وهؤلاء الثلاثة ممثلون في الحصة الحكومية المسيحية: جبران باسيل وسليمان فرنجية وسمير جعجع. هؤلاء كانوا قد خاضوا الانتخابات النيابية بحسابات رئاسية، وتابعوا مشوارهم مع العقد التي تحكّمت بتأليف الحكومة.
سليمان فرنجية، الخارج من الانتخابات النيابية بالحصة الأقل، إستند الى علاقته بـ«حزب الله» للابقاء على حصته في الحكومة الجديدة، أي الاحتفاظ بحقيبة وزارة الاشغال الدسِمة لكي لا يشكّل إيلاءه حقيبة ثانية أقل دسامة نكسة معنوية له.
وفي موازاة تلاحق ظهور فضائح في مطار بيروت كان «التيار الوطني الحر» يضغط لانتزاع حقيبة الاشغال، لكنّ «حزب الله» اضطر بعد فترة للدخول على الخط عبر أمينه العام السيد حسن نصرالله وإضفاء بقاء حقيبة الاشغال مع تيار «المردة» بمثابة شرط له، وسرعان ما وضعت عقدة الأشغال جانباً ومعها بَدا انّ المرشح الرئاسي سليمان فرنجية يعوّض عن حضوره النيابي المحدود بعلاقاته التحالفية القوية مع «حزب الله» والرئيس السوري بشار الأسد الخارج منتصراً من حربه، إضافة الى تأييد الرئيس نبيه بري والزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط معطوفاً عليهم عدم ممانعة تيار «المستقبل» والسعودية، وجاءت مصالحته مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع لتفتح له احتمال توسيع دائرة التأييد المسيحي.
امّا جعجع، الذي كان قد صُنِّف بأنه أحد الرابحين الكبار في الانتخابات النيابية، فهو اندفع لترجمة أرباحه في التشكيلة الحكومية مُتّكئاً على تقاطع مع جنبلاط الذي كان بدأ بالتبلور خلال الانتخابات النيابية، وعلى علاقة تحالفية وثيقة مع السعودية أدّت الى استعادة علاقته مع الرئيس سعد الحريري.
لكنّ جعجع اضطرّ بعد 5 اشهر الى التراجع خطوات الى الوراء، لثلاثة أسباب:
ـ الأول، تمنُّع جنبلاط عن نسج علاقة تحالفية فعلية معه، مرة لفقدان الثقة، ومرة ثانية لعدم إغضاب رئيس الجمهورية ومفضّلاً الافتراق عن جعجع بعد إنجاز تسوية جانبية مع قصر بعبدا.
ـ الثاني، تبدّل ظروف السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي، ما دفعها الى التفرّغ لمعالجة مشكلتها الجديدة وتأثيراتها على اليمن.
ـ الثالث، انّ الحريري نفسه، على رغم تفعيل قناة تواصله مع جعجع، كان بارداً في علاقته المتجددة، وخلال مفاوضات الأشهر الأولى دُهِشَ «حزب الله» حين سمع انّ الحريري سيفرض على «القوات اللبنانية» الصيغة التي كان اتفق عليها مع الوزير جبران باسيل، فإذا قبلت بها كان به واذا رفضت فسيعلن الحكومة من دونها.
وهو عاد ونفّذ تهديده فور عودته الأخيرة من السعودية لدى تصاعد أزمة مقتل الخاشقجي، حين قال لجعجع إنه «ملزم بإصدار الحكومة خلال اليومين المقبلين، والصيغة المطروحة على «القوات اللبنانية» هي الوحيدة الممكنة، وانّ قرار مشاركة «القوات» يعود إليها».
عندها، إضطرّ جعجع الى إعلان موافقته على حصته التي خَلت من حقيبة وزارة العدل، وعملياً حافظ عددياً على حصته في الحكومة السابقة، لكنّ حصته المعنوية تراجعت رغم «انتصاره النيابي»، ومعه بَدا أنّ الحريري أقرَب في الشكل الى جعجع ولكنه أقرب في المضمون الى جبران باسيل.
يبقى المرشح الرئاسي الثالث جبران باسيل، والذي خاض معاركه منذ سنة، أي منذ بدء تشكيل اللوائح النيابية الانتخابية وصولاً الى «قطب» التشكيلة الحكومية وزواريبها، على خلفية الاستحقاق الرئاسي المقبل.
صحيح أنّ المواقف الرسمية والمعلنة كانت تتضمّن نفياً لهذا الربط، ولكنّ المسار الصعب والمتعرّج للتشكيلة الحكومية أثبت ذلك.
فالسؤال الذي طرحَته ضمناً مختلف القوى السياسية الاساسية، وفي طليعتها تيار «المستقبل» و«حزب الله»، هو عن السبب الفعلي لتَمسّك باسيل المُستميت بالثلث المعطّل.
والواضح انّ العلاقة الجيدة التي ربطت «المستقبل» بـ«التيار الوطني الحر» منذ إنجاز التسوية الرئاسية أدّت دورها خلال عمل الحكومة السابقة، وكان «التياران» متفقان معظم الاحيان على التعيينات والملفات والمشاريع المطروحة، واستكملت هذه التفاهمات بالتحالفات النيابية خلال الانتخابات.
لكنّ حدثين أدّيا الى اهتزاز هذه العلاقة: الاول، يتعلق بالنتائج النيابية المخالفة للتوقعات والآمال المبنية عليها. والثاني، كَف يَد نادر الحريري وإخراجه من دائرة القرار في تيار «المستقبل».
صحيح أن العلاقة فقدت بعض جوانبها الحميمة بين «المستقبل» و«التيار الحر»، الّا انّ الفريقين حرصا على إبقاء خطوط التفاهم قائمة في إطار تأمين المصالح السياسية والحكومية.
ووفق ذلك، إنتهج الحريري سياسة إبقاء التفاهم مع باسيل، ولكن من دون الدفع في اتجاه إيصاله الى قصر بعبدا، ولكن في الوقت نفسه من دون إعاقة تقدمه.
وخلال مفاوضات تشكيل الحكومة، ترجم سياسته هذه من خلال المساهمة في وضع العوائق أمام امتلاك باسيل الثلث الحكومي المعطّل.
وهو بذلك قد يكون تناغم مع «حزب الله» عندما أعلن رفضه المطلق التنازل عن اي مقعد وزاري سنّي من حصته، وفي الوقت نفسه التمَسّك بالتبادل مع رئيس الجمهورية، مُعلناً أنه لن يعارض الحل القائم على اختيار ممثل «اللقاء التشاوري» من حصة الرئيس ميشال عون، وهو ما يعني عملياً كسر حصة الثلث المعطّل.
والواضح انّ باسيل كان يقرأ جيداً خلفيات موقف الحريري، كذلك كانت العلاقة تتأرجح مع الحريري، خصوصاً خلال المرحلة الاخيرة من تشكيل الحكومة.
لا شك انّ السؤال الضمني الذي لاحقَ الحريري، وكذلك «حزب الله» هو ما سَبب تَمسّك باسيل بالثلث المعطّل؟ فإذا كان على مستوى عمل الحكومة، فإنّ هذا الثلث يساعده في فرض شروطه على مستوى التعيينات الادارية، لكنّ التوافق كان يفتح الطريق وإنما امام التفاهمات، وهو ما سادَ خلال عمل الحكومة السابقة.
امّا في مرحلة ادارة الفراغ الرئاسي في ظل عدم التوافق على اسم الرئيس، فإنّ الثلث المعطّل سيمنح باسيل ورقة قوية لإدارة الحكومة تكاد توازي قوة رئيس الحكومة.
ووفق حسابات احتمال أن تطول فترة الفراغ الرئاسي، فإنّ هذا الأمر سيعني تعزيز قوة هذه الورقة اكثر استناداً الى دروس حكومة تمام سلام التي أدارت فراغاً رئاسياً لمدة سنتين ونصف السنة.
لهذه الحسابات ساهمَ الحريري في كسر حصة الثلث المعطّل، ولو من خلال التحايل برفض انتقاص حصته الوزارية، لا بل أكثر فهو تَعمّدَ التصعيد في وجه «اللقاء التشاوري» لقطع الطريق على أيّ حل وسط من حصته، ولإبقاء منفذ وحيد للحل من خلال حصة رئيس الجمهورية.
و«حزب الله» لم يكن بعيداً من هذه الحسابات، لا بل هو أعلنَ مراراً موقفه من الحسابات الحكومية المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي، يوم وَجّه نائب الامين العام الشيخ نعيم قاسم رسالته الشهيرة، مُتقصّداً تجهيل العنوان المُرسلة اليه: «حسابات الاستحقاق الرئاسي لها قواعد مختلفة، «حزب الله» لن يحدد موقفه منها الّا قبل أسابيع معدودة».
وبعد توقّف إعلان الحكومة بسبب إعلان السيد نصرالله عن عقدة تمثيل سّنة 8 آذار، إلتقى الوزير باسيل السيد نصرالله مرتين في غضون شهر واحد، وحاول باسيل فتح باب التفاوض حول العقدة السنية من خلال طرح السؤال عمّا اذا كان تجميد ولادة الحكومة «بيحرز» مقابل توزير واحد من هؤلاء؟
وعوضَ أن يفتح السيد نصرالله باب الاثمان والعرض والطلب، تحدث بالالتزام بالمفاهيم المبدئية. وخلال الزيارتين لم يُفسح المجال لفتح ملف الاستحقاق الرئاسي المقبل.
ذلك انه، خلال مهلة تركيب اللوائح الانتخابية النيابية، طلبَ باسيل بوضوح من مرشحين محسوبين فعليّاً وسياسيّاً على «حزب الله» مسألة أساسية: نحن و«حزب الله» لدينا الأولويات الاستراتيجية نفسها، لكن نريد منكم التزاماً بأنه خلال الاستحقاق الرئاسي المقبل أن تكون الأولوية المطلقة لنا، أيّاً كانت المواقف».
ومن المنطقي أن يكون هذا الكلام قد وصل الى مسامع «حزب الله» الذي لا بد انه يترقّب الاحتمالات كلها، لأنّ تنظيمات من هذا النواع تخوض معارك صعبة وخطرة في الشرق الاوسط، وفي لبنان لا بد ان يكون الحذر سيّد موقفها والحسابات الدقيقة هي الأساس.
لذلك، قد يكون باسيل، الذي يطمح لوعد مبكر من «حزب الله» على غرار ما حصل مع عون، يعمل على حَشر «الحزب» اكثر في الموضوع الرئاسي، حاصراً المنافسة بينه وبين سمير جعجع ومُنتزعاً تأييد «حزب الله» بحُكم الظرف ووقف التزام به منذ الآن.
وفي النهاية، إضطرّ الجميع للعودة الى التسوية بعد اعتبارات عدة، أهمها:
-1 باتت المواقف واضحة، خصوصاً لدى «المستقبل» و«حزب الله».
-2 الوضع الاقتصادي المخيف وتحذير باريس الجدي من إجهاض مؤتمر «سيدر».
-3 وضع خيار «الرسالة الرئاسية» الى مجلس النواب جانباً، بعدما أدى طرحها في الاعلام الى عكس أهدافها، وأنها ستؤدي في النهاية الى تحصين الحريري لا دفعه الى التراجع.
-4 التطورات في الجنوب، والتي تُنبئ بمرحلة دولية صعبة تفاقم من خطورة الكارثة الاقتصادية التي تحيق بالاسواق.
لكنّ اللافت انّ تخريج الحل أُعطي للمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم، على رغم من انّ باسيل كان قد قدّمَ نفسه «وسيطاً» خلال الاسابيع الماضية، وصاحب مبادرة لإيجاد الحل.