صهيب عنجريني – الأخبار
«انسحاب أميركي من سوريا»، هذا ليس مآلاً مفاجئاً إلا في ما يتعلّق بتوقيته، وكيفيته. هل هو تفضيل للحل الأقل تكلفة؟ أم هو مناورة؟ أم جزء من صفقة؟ سيلزم بعض الوقت لتظهير المعطيات في شكل أوضح وتقديم الإجابات. الثابت أنّ الخطوة تعدُ بتغيّرات جوهريّة في مستقبل الملف السوري، وتضع «قوات سوريا الديمقراطيّة» أمام الحقيقة العارية: «الرهان على الأميركي ليس خياراً حكيماً».
أثارت الإدارة الأميركيّة زوبعةً لا يُتوقّع لها أن تهدأ سريعاً، عقب الكشف عن قرار مفاجئ بسحب القوات الأميركيّة من سوريا في مهلة تراوح «بين 60 و100 يوم». ورغم صعوبة الجزم بتنفيذ هذا الانسحاب في موعده، فإنّ توافق التصريحات الصادرة عن «البيت الأبيض» و«البنتاغون» في شأنه، يجعل إنجازه مسألة وقت على الأرجح. وسواء انتهت الأيام المئة بانسحاب كليّ أو جزئيّ، الثابت أن المشهد في «شرق الفرات» قد ضرب موعداً مع تغيّرات جوهرية يُنتظر أن تُفضي إلى تبدّل هيكليّة القوى المسيطرة على الجغرافيا في الحدّ الأدنى، أو إلى ارتسام خريطة سيطرة مغايرة تحتوي على راياتٍ جديدة. وتكتسب المعطيات الأخيرة أهميّة خاصة في ظل تصاعد الوعيد التركيّ بتكرار سيناريو «عفرين»، وهو أمرٌ سبق أن أكدت مصادر تركيّة لـ«الأخبار» أنّه مبرمج في «إطار خطة بعيدة المدى» (راجع «الأخبار»، 8 تشرين الثاني). وبرغم أنّ معطيات الأمس تبدو مسخّرة لخدمة أنقرة، فإنّ الخوض في التفاصيل يوضح أنّ الأمور قد تكون أعقد مما تبدو عليه. وينبغي ترقّب ردود فعل بقية الدول المنضوية تحت راية «التحالف الدولي» ومدى استعدادها للسير في رِكاب واشنطن، وخاصة الدول الأوروبيّة الحاضرة على الأرض عسكريّاً ومخابراتيّاً (تبرز في هذا الإطار فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص).
ومن غير المتوقّع أن تتنطّع دول «التحالف» لملء الفراغ الذي سينشأ في حال تنفيذ الانسحاب الموعود، لكنّ التخلّي عن النفوذ الذي حقّقته بعض تلك الدول «شرقيّ الفرات» لا يبدو خياراً يُمكن حسمه بسهولة. في المقابل، تبرز سيناريوات محتملةٌ عدّة، من بينها الوصول إلى اتفاق يسمح بدخول قوّات من «البيشمركة السوريّة» إلى «شرق الفرات»، أو حدوث اتفاق مفاجئ يُفضي إلى انتشار الجيش السوري على الحدود الشماليّة. وينطوي كلّ من السيناريوات المطروحة على تعقيدات كثيرة تجعل احتمالات تحقّقه مساوية لاحتمالات فشله في أفضل الأحوال. ووسط هذه الزوبعة تبرز «قوّات سوريا الديمقراطيّة» بوصفها «الخاسر الأكبر»، في ظلّ تمسّكها بخيار الرهان على واشنطن طوال السنوات الماضية. ومن المسلّم به أنّ نجاح «قسد» في فرض هيمنتها على مساحة تقارب ثلث الجغرافيا السوريّة ما كان ليتمّ من دون الغطاء الأميركي.
وعلى امتداد الأيام الثلاثة الماضية حاولت «الأخبار» التواصل مع مسؤولي «قسد» العسكريين وناطقيها للوقوف على تفسيرات لقضية انتشار «البيشمركة» في مناطق «شرقيّ الفرات» أوّل الأمر، وتقييم لمسألة الانسحاب الأميركي تالياً، لكنّ التواصل تعذّر مع بعضهم، وامتنع بعضهم الآخر عن الخوض في أي تفصيل. ويرى «الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطيّة» رياض درار أنّ «وجود القوات الأميركية شرقيّ الفرات، آخر أوراقها، وإذا خسرت هذه الورقة فسينتصر حلف الشرق: روسيا وإيران وتركيا». ويقول لـ«الأخبار» إنّ «وجود الأميركيين أو عدمه ليس في يدنا. نحن لم نطلبهم، جاؤوا لقتال داعش، وصادف أن كنّا نقاتله فتحالفنا معاً». ويضيف: «ليس بيننا وبينهم أي أوراق سياسية متفق عليها، هم أحرار في قراراتهم، ونحن أحرار في الدفاع عن أرضنا التي سيسجل التاريخ أننا رفعنا رايتها، والآخرون كانوا يبحثون عن مناصب لهم في أحضان الآخرين». ويأتي الانسحاب الأميركي الموعود بمثابة ضربةٍ جديدة تتلقّاها «قسد» في سياق صعوبات غير مُعلنة يواجهها هذا التحالف المحلّي. وتكشف معلومات متقاطعة حصلت عليها «الأخبار» من مصادر عدّة عن وجود خلافات حادّة داخل «قسد» حول قضايا تتعلّق بـ«مستقبل شرق الفرات». وتأتي على رأس تلك القضايا فكرة انتشار قوّات «البيشمركة السوريّة» في المناطق الحدوديّة الشماليّة، وهي فكرة تتبنّاها أطراف داخل «قسد» وتعارضها أطراف أخرى بشدّة. ولا يقتصر الانقسام في الموقف على مكوّنات «قسد»، بل يتعدّاه إلى داخل المكوّن الكردي الذي يُعدّ العنصر الأشد فاعليّة في التركيبتين العسكريّة و«الإداريّة» شرقيّ الفرات.
وتبرز في المقابل طروحات أخرى ترى إمكانية إحلال قوات «عشائريّة» من خارج «قسد» على امتداد الشريط الحدودي، لكنّها كسابقتها لا تحظى بحدّ كافٍ من التوافق. ويرى «الرئيس المشترك» رياض درار أنّ العرّاب الفعلي لهذه الأفكار هو «رئيس تيار الغد» أحمد الجربا. ويقول: «هذه لعبة، وأحمد الجربا يصبح طرفاً فيها من جديد، هو طرف يسعى للتخريب أكثر من العمل لتوحيد المسارات». يؤكد درار أنّ «عناصر البيشمركة لم يدخلوا مناطقنا، هناك خططٌ بدأت تُرسم منذ زيارة الجربا لكردستان العراق، ثم عودته إلى أنقرة». يقول إنّ «البيشمركة لم تدافع حتى عن مناطقها، هي قوات دُرِّبَت في أربيل وتخضع للطرف المحسوب على المجلس الوطني الكردي، وهي مُعدَّة فقط لإثارة المشكلات». ووفقاً للمصدر نفسه، فـ«البيشمركة لا ترغب في الدفاع عن المنطقة ضدّ إرهاب داعش، هي بالعكس لا ترى أن قتال داعش أولوية كردية، وتتهم القوات الكردية التي قاتلت التنظيم بأنها أثارته على الأكراد». يحرص درار على ترك الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات، فـ«إذا جاءت البيشمركة لتنضوي في قيادة موحّدة مع قوات سوريا الديمقراطية، يمكن التفاهم بشأن ذلك، لأنه يخدم وحدة الصفّ الكردي، وبالتالي يخدم المنطقة والمشروع الوطني السوري». ويضيف: «لا يوجد شيء يفرض فرضاً، يمكن أن نقيم تفاهماً، سواء مع البيشمركة، أو مع قوات العشائر التي يتحدث الجربا عن وجودها وقدرتها على حماية الحدود، وإن كنّا لا ندري من أين جاءت هذه القوات، فنحن نعرف الأرض ومن عليها».
قبيل الكشف عن قرار الانسحاب الأميركي بساعات قليلة، أعلنت واشنطن أنها وافقت على بيع تركيا صواريخ «باتريوت» بقيمة 3.5 مليارات دولار، لتعود وزارة الخارجية وتؤكد الصفقة التي تشتمل على 80 صاروخ باتريوت عقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ونقلت وكالة «فرانس برس» عن متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية قوله: «وجّهنا تحذيراً واضحاً إلى تركيا من أن احتمال شراء منظومة (إس 400) الروسية قد يؤدي إلى التراجع» عن بيع أنقرة مقاتلات «إف 35» الأميركية، وقد يعرضها لعقوبات من جانب واشنطن.
وبالتوازي، قال المتحدث باسم «الكرملين» ديمتري بيسكوف، إن «صفقة باتريوت» لن تؤثر بصفقة بيع منظومة «إس 400» الصاروخية الروسية لأنقرة.
الجيش رمز البلاد… ولكن
في خطوة ليست الأولى من نوعها «تحت الضغط»، كرّر «مجلس سوريا الديمقراطيّة» دعوة الجيش السوري إلى «الدفاع عن حدود البلاد». يوضح رياض درار لـ«الأخبار» أنّ الدعوة «ليست مسألة تسليم وتسلُّم. قلنا إن الجيش السوري رمز البلاد، والتعاون معه لحماية الحدود عمل وطني، لكن النظام لا يريد العلاقة مشتركة، بل يريد فرض أمر واقع على طريقة التسليم». يرى «الرئيس المشترك» لـ«مسد» أنّ «النظام خرج من المنطقة حين جاء داعش، ولم يحررها هو، بل حررناها بقوات من أبناء المنطقة. قلنا للنظام إن هذه القوات ستصبح جزءاً من الجيش بعد التسوية». ويضيف: «ذهبنا إلى دمشق بحثاً عن هذه التسوية، لكن ردود الفعل جاءت بخطابٍ متعالٍ، وخاصة في تصريحات (وزير الخارجيّة السوريّة) وليد المعلم الأخيرة حول مشروع الفيدرالية». يشير درار إلى أنّ «مشروع الفيدراليّة كان سابقاً ضرورةً، لكننا اليوم ألغيناه من أدبياتنا واستبدلنا به اللامركزية الديمقراطية، وهي مشروع لكل سوريا. إذا أرادوا أن نتحدث في هذا، فنحن جاهزون». ويضيف: «على النظام أن يستجيب مبدئياً لمطالبنا بأن يُرسل قوات عسكرية بلا شروط، لأنها ستدخل وتتمكن وسنشعر بالثقة من خلال وجودها، وسنرى جميعاً نتائج إيجابية تجعلنا نبحث في ما وراء ذلك من تفاهمات».