محمد وهبة – الأخبار
تمارس بعض المصارف مع زبائنها سلوكاً يحمل في طياته قيوداً على عمليات التحويل من الليرة إلى الدولار. هي عبارة عن «قيود مقنّعة» جاءت بعدما اتخذ مصرف لبنان قراراً يقضي بالتخفيف من عرض الدولار في السوق إلى أضيق حدود بهدف الضغط على المصارف لجذب سيولتها بالعملات الأجنبية من الخارج. في المقابل، توسّعت المصارف في ابتداع القيود وتطبيقها استنسابياً.
في الأسابيع الماضية انتشرت معطيات عن سلوك «قمعي» تمارسه المصارف مع زبائنها. الأزمة المالية وصلت إلى هذه المرحلة التي يصبح فيها السوق خاضعاً لقواعد غير مكتوبة تفتح المجال أمام التأويل وتزيد من مستويات القلق والخوف. هذه المرحلة تكون في العادة المرحلة التي تسبق حصول نكسة أو انهيار أو تدهور، وهي المرحلة التي يصبح فيها الصرّاف هو الجهة التي تقوم بتسعير العملة ويصبح أصحاب المدخرات الصغيرة بالليرة هم الحلقة الأضعف. طبعاً هناك تفسير لكل هذا السلوك وما ينجم عنه من تداعيات سوقية. فمن جهة، مصدر هذا السلوك هو الأزمة التي بات يقرّ بوجودها الجميع، لكن تطوّراته بدأت تخرج عن السيطرة، وهو ما بدأ يحصل حالياً في السوق حيث جرى الانتقال من منع التحويل من الليرة إلى الدولار بهدف منع التنافس بين المصارف على اجتذاب الزبائن، إلى منع التحويل بسبب النقص في الدولارات. وفي كِلتا الحالتين، فإن هذا السلوك كان يستند إلى تعليمات شفهية صادرة عن مصرف لبنان. في المرّة الأولى، جاء الاتفاق بين المصارف لمنع التنافس على اجتذاب الزبائن بطلب من مصرف لبنان، وفي المرة الثانية هو الذي اتخذ القرار بالحدّ من تدخّله في سوق القطع بائعاً للدولار.
إذاً، قرّر مصرف لبنان أن يقلّص عرض الدولار في السوق. بحسب مصادر مطلعة، فإن هذا الأمر هو من الإجراءات التي اتخذت بهدف تعزيز استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وبهدف تحفيز المصارف على جذب سيولتها بالدولار من الخارج. وهو يأتي بعد سلسلة إجراءات عنوانها «إدارة السيولة». مصرف لبنان عمد إلى امتصاص السيولة بالدولار من المصارف بهدف تعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية التي وصلت في نهاية تشرين الأول 2018 إلى 34.6 مليار دولار بعدما كانت 33.1 مليار دولار في حزيران 2018 و35.3 مليار دولار في كانون الثاني 2018. ومن الإجراءات التي اتخذها أيضاً، امتصاص السيولة بالليرة من أجل تحقيق هدفين: كبح التضخم الذي ارتفع إلى 6.3% في أيلول 2018، ومنع السيولة بالليرة من أن تتحوّل طلباً على الدولار، سواء من خلال إغراء المصارف بهندسات سخية، أو لجهة أرباح تحفزّها لإغراء المودعين بفوائد مرتفعة مقابل تجميد أموالهم على فترات أطول. وضمن هذا الهدف نفسه، أعطى مصرف لبنان توجيهاته للمصارف بوقف كل الاعتمادات والحسابات المكشوفة والتسهيلات المصرفية القصيرة الأجل بالليرة اللبنانية من أجل مساعدة المصارف على تطبيق التعميم 503 الذي يفرض عليهم ألا تتجاوز مجموع تسليفاتهم السوقية بالليرة ما نسبته 25% من مجموع ودائعهم بالليرة، علماً بأن نسبة التسليفات الإجمالية في القطاع المالي تصل إلى 34%.
إدارة السيولة بهذه الطريقة خلقت قيوداً مارستها المصارف على الزبائن بالاستناد إلى عوامل «ترغيب» و«ترهيب». المعطيات المتداولة تتحدث عن زبائن أجروا أكثر من محاولة لتحويل مدخراتهم من الليرة إلى الدولار، إلا أنهم علقوا في دوامة من المماطلة والرفض غير المعلن. في ظاهر الأمر، لم يكن هناك أي مانع لدى المصارف من تنفيذ عمليات التحويل وكانت لديهم شروط واضحة للقيام بذلك. لكن استعمال المبررات لفترة طويلة كشف عن مماطلة مقصودة. فمن جهة قامت المصارف بترغيب الزبائن وعرضت عليهم منتجات تمنحهم فوائد مرتفعة على تجميد أموالهم بالليرة، ومن جهة ثانية «كشّرت» عن أنيابها وقالت لغالبيتهم إنه لا دولارات لديها، وإن أي عمليات تحويل يمكن القيام بها عبر الصرافين، أو نقل الأموال إلى مصرف ثانٍ يملك الدولارات.
ليس هناك حدّ فاصل بين ما يمارسه بعض المصارف مع الزبائن، وما أمرها به مصرف لبنان، إذ إن عملية نقل الوديعة إلى مصرف آخر ثم تحويلها إلى الدولار لم يكن خياراً، بل كان تجربة فاشلة قام بها بعض الزبائن ووأدها مصرف لبنان بالاتفاق مع المصارف على منع التنافس في ما بينها على اجتذاب الودائع. في ذلك الوقت، أي منذ بضعة أشهر، كانت بعض المصارف لجأت إلى خلق منتجات مصرفية تشترط جذب ودائع بالدولار يتم تجميدها لدى المصرف بالليرة مقابل فائدة تصل إلى 15% (لاحقاً ارتفعت أسعار الفائدة إلى أكثر من 18% على الودائع المحوّلة من الدولار إلى الليرة). هذا الأمر أثار ريبة المصارف الأخرى التي خاضت تجربة الهندسات المالية في صيف 2016 ورصدت انتقال الودائع بالدولار من مصرف إلى آخر وتجميدها بالليرة للاستفادة من الفوائد الأعلى. كذلك، كانت هذه المصارف تدرك أن رفع الفائدة إلى هذا المستوى المرتفع غير ممكن من دون أن ينفذ مصرف لبنان هندسات مالية لاستيعاب السيولة وتعويض المصارف عن دفع هذه الفائدة المرتفعة. المصارف اشتكت من إمكان تكرار ما حصل في 2016، ما دفع بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الطلب من جمعية المصارف تنظيم هذه العملية. هكذا اتفقت المصارف على أن لا تتنافس في ما بينها لاستقطاب الزبائن. الاتفاق شمل ألا تسمح المصارف للزبائن بتحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار إلا إذا وافقوا على تجميدها في المصرف نفسه ولفترة طويلة تفوق 6 أشهر. وفي ما عدا ذلك، يمكنهم الحصول على شيكات مصرفية بقيمة ودائعهم ونقلها إلى أي مصرف آخر، إلا أن هذا المصرف الآخر لن يقبل تحويل الودائع الجديدة الآتية بالليرة إلى دولار أيضاً وسيشترط تجميد الوديعة لديه لفترات طويلة أيضاً.
هكذا انطلق الحديث عن وجود قيود على التحويل من الليرة إلى الدولار. لكن المشكلة أن مستوى القيود ارتفع وأخذ مسارات مختلفة. ثمة مصارف تطلب من الزبون العودة في اليوم التالي لإجراء العملية، وتكرّر طلبها على أيام عديدة قبل أن تصرّح له بأنها لا تملك الدولارات، وبأن الصرافين وحدهم يملكون العملة الصعبة. طبعاً سعر صرف الليرة عند الصرافين تجاوز 1520 ليرة في الأسبوعين الماضيين، أي أعلى من المعدل الذي يضعه مصرف لبنان لسعر الصرف.
كذلك ثمة مصارف ترفض إجراء أي عمليات تحويل للعملة إلكترونياً، وتطلب من الزبون الحضور إلى أحد فروعها للقيام بعمليات التحويل. حتى التحويل عبر البطاقات المصرفية لم يعد متاحاً. بعض المصارف تكون صريحة أكثر من غيرها، فتقرّ بأنها لا تملك الدولارات لأن مصرف لبنان لا يمدّها بها، وأنه هو الذي يسيطر على كل السيولة بالدولار في السوق.
نعم يمرّ لبنان بهذه المرحلة حيث أطراف السوق متكاتفون بعضهم مع بعض في حجب الدولارات عن المودعين، ولا سيما صغار المودعين، إذ سجلت بعض حالات التحويل لحساب بعض كبار المودعين. تكاتف السوق بهذه الطريقة، هو أحد المؤشرات الخطيرة على سحق «حرية التحويلات» في نظام يتغنّى بهذه الحرية كونها من أبرز عوامل جذب التدفقات الرأسمالية إلى جانب السرية المصرفية. هذه الحرية باتت على المحكّ اليوم، وصارت السمة الطاغية على السوق هي «القيود على حركة التدفقات». هذه القيود لا تظهر وتطبق إلا في البلدان المأزومة التي تمنع التحويل من العملة المحلية إلى الدولار، ثم تمنع لاحقاً تحويل الأموال من الداخل إلى الخارج كإحدى أدوات مكافحة الانهيار المالي.