بيار أبي صعب – الأخبار
الحشود الغاضبة في شوارع فرنسا، منذ أسبوعين، غافلت القوى السياسيّة التقليديّة، وأدهشت العالم، في ظلّ تراجع المعارضة التقليدية، من حزبيّة ونقابيّة، بعدما نجح الرئيس ماكرون ـــ خريج بنك «روتشيلد» والطغمة الماليّة ـــ في ضرب فكرة الأحزاب، يساراً ويميناً. هذه الحشود غير المنظّمة التي أعلنت بعفويّة عن بدء «الشتاء الفرنسي»، على قاعدة «الربيع العربي» (طبعاً، مع حفظ النسب بين طرفي المقارنة)، حصلت أمس، أخيراً، على أول تنازل من الحكومة الفرنسيّة. «تنازل» خجول، لكن أهميّته أنّه يأتي بعد تعنّت طال، يعكس غطرسة مانويل ماكرون الملقّب بـ«جوبيتر»، تدليلاً على تفرّده بالحكم من عليائه، متجاوزاً حتى مؤسسات الجمهوريّة، محاطاً بفريقه الأميري من «زعران» الأمن (بينالا وشركاه) إلى خبراء الحاشية ومستشاريها. لقد أعلن رئيس الحكومة إدوار فيليب، أمس، «تأجيل» فرض الضرائب المقرّرة على المحروقات، لمدّة ستة أشهر فقط. ويمكن أن نعتبر ذلك تراجعاً تكتيكيّاً لحكومة ماكرون الثانية، بعدما تراجعت شعبيته وتزعزعت صورته، يفتح المجال أمام كل المناورات الممكنة. هل يهدف قرار التجميد إلى «تنفيس» غضب الشارع الهادر؟ كل ذلك عشيّة تحرّكات مقلقة، إذ يُتوقّع أن تشهد فرنسا عطلة أسبوع حامية، ستكون الأضخم شعبيّاً، منذ اندلاع الاحتجاجات ضد ما بات يمكن تسميته «النظام» الفرنسي، في ظل أوروبا الليبرالية القائمة على خدمة الأسواق والشركات الكبرى، واستغلال الشعوب وأبناء الطبقات الوسطى والدنيا.
لا يبدو أن التحرك سيكتفي بهذا التنازل. لكن من هم أصحاب «السترات الصفراء» الذين لا ينضوون تحت لواء حزب معيّن، أو نقابة؟ كيف ظهروا فجأة بعد «الفشل» النسبي، منذ عامين، للمعارضة النقابية، والمعارضة السياسيّة بقيادة جان – لوك ميلانشون زعيم تيّار «فرنسا المتمرّدة»، في تنظيم الحركة الاحتجاجيّة على سياسة ماكرون الليبراليّة السافرة؟ لقد انطلق ماكرون، مدعوماً من أكثريته النيابيّة، في كسر «النموذج الاجتماعي» الفرنسي القائم على دولة الرعاية، وضرب قانون العمل الذي هو نتيجة نضالات شعبية ونقابيّة طويلة تعود إلى «الجبهة الشعبية» عام 1936، وذلك خدمة لمنطق السوق وأرباب العمل، والمصالح الرأسماليّة. ولم تستطع ثنيه عن عزيمته المعارضة الخجولة التي نزلت إلى الشارع. لكن كان يكفي أن تقرر حكومته رفع الضريبة على المحروقات حتى يلتهب الشارع، ويشتعل حريق بات من الصعب إخماده، يراهن الأكثر راديكاليّة اليوم على إسقاط رئيس الجمهويّة، أي بمعنى آخر وبعبارة «عربيّة»، «إسقاط النظام السياسي» الليبرالي بات ماكرون صورته ومثاله. هذا النظام المدعوم من النخب الجديدة، وجماعات الضغط، ومالكي الماكينة الإعلامية ونجومها من صنّاع الوعي الليبرالي.
والانتفاضة الشعبيّة في فرنسا التي اتخذت أبعاداً مفاجئة ومقلقة باتت تهدد الرئيس بالترنّح، اتسمت بالعفويّة وبرفض الحزبيّة الضيّقة، بحيث يصعب احتواؤها من قبل قوة سياسيّة حصريّة. فهي استقطبت أبناء الطبقة الوسطى المنشغلة برخائها وامتيازاتها الاجتماعيّة، بكل أطيافها السياسيّة من «اليمين المتطرف» إلى «اليسار الميلانشوني»… ما ألصق بـ«السترات الصفراء» تهماً متسرّعة بالشعبويّة و«البوجاديّة» وضيق الأفق السياسي. لكنّ الدينامية التي تحركّها هي في العمق نتيجة تراكم حقيقي للنقمة الشعبية على منظومة اقتصادية وسياسية يحكمها البنك المركزي الأوروبي، وتشكّل ملامحها منطق السوق على حساب الرخاء والأمان الاجتماعي.
اليوم يتغيّر الواقع بسرعة، حتّى بتنا أمام «حركة احتجاج» بالمعنى الكامل للكلمة، بدأت تتنظّم وتفرز قياداتها، وخطابها، وبرنامجها الاجتماعي الذي يتضمّن قائمة مطالب تبدأ بالـ1300 يورو حدّاً أدنى للأجور، وتنتهي بفرض ضرائب عالية على الشركات العالميّة الكبرى للزمن الرقمي، تتناسب مع ضخامة أرباحها. هل هي ولادة قوى اجتماعيّة فاعلة كالتي وقفت وراء التحركات الكبرى في تاريخ فرنسا، من الجبهة الشعبية التي أرست الإجازات المدفوعة والـ 35 ساعة عمل أسبوعيّاً، إلى أيار/ مايو 1968، وصولاً إلى التظاهرات الكبرى التي عطّلت إصلاحات الرئيس شيراك الليبرالية بين 1994 و1995؟ هل سيفرز تحرك «السترات الصفراء» تياراً سياساً منظماً، وازناً، له قياداته وبرامجه، يقف بوجه ليبراليّة ماكرون المتغطرسة التي أعطت الانطباع باستحالة مواجهتها؟ أم أنّها طفرة عابرة، لن تلبث أن تنحسر فتعود مياه «النظام الفرنسي» إلى مجاريها الطبيعية؟