آمال خليل – الأخبار
لم يكد نبيل مروة يصل من «بلده» أبيدجان إلى لبنان، صيف عام 1982، حتى بدأت آلة القتل الاسرائيلية بزرع الموت في كل مكان، وحالت بينه وبين الوصول الى مسقطه في النبطية. أطبق العدو الحصار، تاركاً منفذاً وحيداً عبر ميناء طرابلس. على الباخرة «ترانزيت»، ظنّ نبيل وعشرات آخرون، بينهم أطفال كثر، أنهم غادروا الجحيم… قبل أن يلاقوه على بعد خمسة أميال من الشاطئ، عندما استهدفت غواصة اسرائيلية الباخرة، ما أدى الى سقوط 25 شهيداً. نبيل مروة، أحد الناجين من المجزرة، يروي تفاصيل ما حدث مساء الأربعاء، في 16 حزيران 1982.
من خزنته الخاصة، يسحب نبيل مروة (68 عاماً) قصاصات الجرائد التي وثّقت عملية إنقاذه، مع والدته فتحية جابر وطفلَي شقيقه رانيا ومحمد ووالدتهما رأفت، بعد إصابتهم بجروح عندما استهدفت غوّاصة إسرائيلية الباخرة اللبنانية «ترانزيت» بصاروخي طوربيد مساء الأربعاء في 16 حزيران 1982. يرتجف عندما يُسأل عن الحادثة. كان مروة قد وصل الى لبنان، قبل أيام من اجتياح 1982، في زيارة خاصة. لكنه لم يتمكن من الوصول إلى مدينته النبطية أو التنقل في بيروت. نزل مع أسرته لدى أقارب له في بيت مري. بعد إقفال جيش العدو المنافذ الجوية والبرية، بقي مرفأ طرابلس طريقاً للوصول إلى قبرص ومنها إلى العالم. لجأ إلى البحر «للهروب من الجحيم والعودة إلى بلدنا أبيدجان».
من دون حجز مسبق، توجه إلى طرابلس «التي لم أزرها سابقاً»، ليبحث عن باخرة تنقله وأسرته. كانت باخرة الشحن «ترانزيت» تهم بالإبحار، وعلى متنها 28 لبنانياً من أصل 56 آخرين؛ من بينهم مصريون وعراقيون، فضلاً عن القبطان السوري الجنسية ونجله. دفع ثمن التذاكر واستقل الباخرة. عقب انطلاقها، بعيد السادسة مساء، التقى صدفة بنبيل جابر، صديق الطفولة ورفيق الغربة في ساحل العاج. آل سنو، مستأجِرو الباخرة، خصّوا ابن خالتهم جابر بغرفة خاصة لأنه كان عريساً. في مؤخرة الطبقة العلوية، اجتمع جابر وعروسه وفاء صادق وآل مروة وأفراد من آل الفقيه ولبنانيون آخرون، فيما تجمع عمال في الزاوية المقابلة. استأذن مروة لينزل إلى الطبقة السفلية لإحضار رداء يقيه البرد. «القهوة جاهزة»، قال مروّة لجابر. لم يكد يجيب الأخير حتى اهتزّت الباخرة بعنف. «لم أدرك ما الذي حصل. لم أسمع صوت انفجار. لكن قوة دفع هائلة حملتني من الأرض إلى الجو، ثم ارتطمت بالأرض مجدداً. في غضون دقائق، التفتّ حولي باحثاً عن أمي والطفلين. تحوّلت أرضية الطبقة العلوية إلى كومة من جثث وأجساد مدمّاة وأخرى تشتعل النار فيها. وسط الصراخ ونداءات الاستغاثة، انتشلت أسرتي وأحد الجرحى، ويدعى داود دهيني، وأبعدتهم عن ألسنة النار التي اشتعلت في مؤخرة السفينة» التي كانت تحمل حوالى 30 طناً من المازوت. «سريعاً، حاولت مع ذوي الإصابات الطفيفة من الجرحى إبعاد المصابين والجثث عن النار لكي لا تشوه ملامح من قضوا». خمسة وعشرون شهيداً قضوا يومها. فعل ما في وسعه، لكنه بقي عاجزاً عن نسيان «السيدة التي كانت تهزّني بعنف وترجوني أن أخلّص ابنتها ذات الستة عشر عاماً التي كانت تحترق وسط النار». كما لا ينسى محمد جباضو الذي فضل إلقاء نفسه في البحر على أن يموت احتراقاً.
«أين نبيل ووفاء؟»، تساءل مروة في نفسه. هما، وأحد عشر شخصاً، فقدوا آنذاك. لاحقاً عثر على جثثهم، من بينهم وفاء صادق زوجة نبيل، وابن خالته بشير سنو وزوجته غيداء اللبان وطفلهما احمد. أما جابر، فلم يكشف البحر عنه. لا يزال نبيل، يشكل حسرة عميقة في وجدانه. يستذكر كيف كان يعاني من عقدة السمك في أبيدجان. «كان يرفض تناول الأسماك. ربما كان يشعر بأنها ستأكله يوماً. والدته ظلت، منذ فقدانه وحتى وفاتها قبل عامين، تمتنع عن النظر الى البحر».
«من له عمر لا تقتله شدة»، يتنهّد مروة. أكثر ما يريحه في اعتراف العدو أخيراً باستهداف الباخرة أنه «بدّد اتهامنا لجهات فلسطينية أو سورية كنا نظن أنها تسببت بالحادث. الآن ارتحنا لأن إسرائيل هي من فعلها وليس أحد من ذوي القربى». ينفي مزاعم العدو عن وجود مسلحين فلسطينيين على متن الباخرة: «لم أر مسدساً على الباخرة. كان الركاب عائلات وأطفالاً وعمالاً فرحين لأنهم خرجوا من الجحيم واعتقدوا بأنهم ضمنوا السلامة». يضيف: «ما حدث جريمة حرب. ويجب أن نسترد حقنا المعنوي. وزارة الخارجية، برغم إصدارها بيان استنكار، لم تتصل بنا. نطالبها بأن تكون أمامنا في الادعاء على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. نحن كأفراد لن نحقق المطلوب».