خبر

خسارة روسية لا تلغي التفاهمات

 يحيى دبوق – الاخبار 

 

 

حمّلت موسكو إسرائيل مسؤولية إسقاط الطائرة الروسية ومقتل من كان على متنها خلال اعتدائها الأخير على مدينة اللاذقية، في موازاة تأكيد روسي على حق الرد تجاه الفعل الإسرائيلي غير المسؤول، الأمر الذي عدّ خطاباً قد يفضي إلى تطوّر خطير لاحق، وإن كان التقدير في نظرة ابتدائية، لا يشير إلى تأزم وإمكان الاشتباك، بل وأي تغيير جدي، في العلاقة بين الجانبين.

أسئلة ما بعد إسقاط الطائرة الروسية، من ناحية نظرية، قد لا تنتهي. لكن الأهم والحاضر على طاولة كل الأطراف المؤثرة والمتأثرة في الساحة السورية، يتعلق بتداعيات الحادثة ومستواها وحدودها: هل تفضي الحادثة إلى التأزيم والاشتباك بين الجانبين أو إلى نهاية التغاضي الروسي عن الاعتداءات الإسرائيلية في سوريا؟ أو إلى مجرد تغييرات نسبية، قد لا تزيد عن إلزام إسرائيل، بهامش أضيق من «حرية الحركة» الجوية والصاروخية، فوق السماء السورية؟

إذا كان إسقاط الطائرة من شأنه أن يعقّد العلاقة بين الجانبين، لكنها ليست سبباً للقطيعة أو للاحتراب. في ذلك، تتحمل موسكو أيضا جزءاً من المسؤولية، كونها تتغاضى عن اعتداءات إسرائيل إلى الحد الذي باتت يدها «رخوة على الزناد». مسؤولية جزئية، وإن كانت إسرائيل تتحمّل الجزء الأكبر والمباشر منها. مع ذلك، لا يستقيم أي تقدير للآتي، نتيجة لهذا التطوّر من دون العودة إلى العلاقة التي تجمع وتدير مصالح الجانبين. علاقة منعت تصادمهما حتى الأمس، كما تدفعهما لاحتواء أي تصادم عرضي، نحو الأسوأ.

العلاقة الروسية ــ الإسرائيلية في الساحة السورية هي علاقة تفاهم تفضي إلى تمكين كل جانب تحقيق مصالحه سورياً، من دون أن يتعرض لمصالح الجانب الثاني. تفاهم خدم الجانبين طويلاً، وإن كان الأكثر استفادة هو الجانب الروسي، على رغم الانطباع الخاطئ حول الاستفادة الإسرائيلية الأكبر، نتيجة صورة الهجمات وضجيجها المفضية إلى خطأ في التقديرات.
وكانت إسرائيل قد راهنت عام ٢٠١٥، كما غيرها في المحور الآخر، أن روسيا ستسارع إلى الهرب من المستنقع السوري، مع إمكان تكرار مشهد ما بعد الغزو السوفياتي السابق في أفغانستان. مع فساد هذا الرهان، حافظت إسرائيل على توقعات مع تعديلات، من التأكيد على إمكان السيطرة عبر حلفائها على سوريا كاملة، إلى إمكان تشظي الجغرافيا السورية إلى دويلات، لروسيا إحداها، فيما لإسرائيل إحداها أيضاً.
مع تبدّل الوضع الميداني في سوريا وسقوط الرهانات، اضطرت إسرائيل إلى التراجع عن التوقعات والرهانات الزائدة في إسقاط الدولة السورية، نحو التكيّف الاضطراري مع النتيجة التي تبدّت ميدانياً، وإن عمدت في المقابل إلى تحويل التهديد إلى فرصة، ما أمكنها ذلك.

جزأت تل أبيب التهديدات وعملت على فصلها بين مركبات ثلاث: الوجود العسكري الروسي الذي لا يمكن معارضته أو التصدي لأهدافه؛ والدولة السورية التي باتت جزء لا يتجزأ من المصالح الروسية المحصنة؛ أما الجانب الثالث، فهم حلفاء سوريا، وتحديداً إيران وحزب الله، حيث بات التركيز الإسرائيلي على تهديدهما وتمركزهما، مع محاولة الفصل بينهما والدولة السورية.

الموقف الإسرائيلي تجاه روسيا كان مركّباً. من ناحية، رأت وما زالت، أن الوجود العسكري الروسي تهديد يفضي في حد أدنى إلى تضييق هامش الحركة العسكرية الإسرائيلية ضد أعدائها في سوريا، كما أنه ينهي رهانات كانت حاضرة حتى الأمس حول إمكان استبدال الدولة السورية بأخرى طيعة و«معتدلة». من ناحية ثانية، تعاملت إسرائيل مع موسكو على إمكان التفاهم معها، من خلال التنازل عن جزء من الرهانات، والتسليم لها ببقاء الدولة السورية، فيما تلمّست في المقابل حرية عمل ضد أعدائها الآخرين: إيران وحزب الله.

في الجانب الروسي، لم يكن الموقف سهلاً. موسكو إلى جانب الدولة السورية وحلفائها، تقاتل ضمن مهمة وأهداف مشتركين؛ لكنها كانت أيضاً معنية بدفع «الإزعاج» الإسرائيلي وتحريضه، ومنع التسبب بأضرار للمكاسب الروسية في سوريا. على ذلك، التزمت بالحياد بين الصديق الحليف، أي سوريا وإيران وحزب الله؛ وبين الصديق غير الحليف، أي إسرائيل. الأمر الذي دفع إلى تفاهم غير مكتوب بين الجانبين: كل يقوم بما يريد، وبما لا يتعارض، مع مصالح الآخر.

في التفاهم، المبني على التسليم الإسرائيلي بمصالح روسيا، تراجع عن استهداف الدولة السورية والسعي لإسقاطها، وهو ما كان خارج القدرة الإسرائيلية في الأساس، وتحديداً ما بعد التدخل الروسي في سوريا… فيما جاء تأكيدها في التفاهم نفسه على الفصل بين سوريا وحلفائها. والهجمات كانت خلال الفترة الماضية، مبنية على هذه الأسس والمنطلقات والشروط، ومع مراعاة المحظورات والموانع الروسية.
في الشكل، والصورة الظاهرية للمشهد السوري والتشابك حوله، تعامل الأطراف مع واقع جديد، حتى الأمس، كل بحسب تكيفه ومصالحه وربطاً بأهدافه الرئيسية ورؤيته للآتي، وإن تخللت الفترة الماضية ردود عمدت إلى فرملة إسرائيل ومنعها من تجاوز حد زائد في هجماتها، في انتظار التغييرات وتطور الموقف الميداني في سوريا.
على ذلك، بات بالإمكان الإشارة إلى الآتي:

أولاً، مباني التفاهم بين إسرائيل وروسيا مبان صلبة نسبياً، مبنية على سياسات مدروسة وهادفة، وتفضي إلى تغاض متبادل عن المصالح في سياق السعي لتحقيق المصالح الذاتية، حتى تلك المتعارضة منها. حادثة إسقاط الطائرة، وعلى رغم الخسارة الروسية الكبيرة جرائها، لم تأت في مرحلة تأزم علاقات أو تعارض مصالح حتى التشابك، أو نتيجة التجاسر الإسرائيلي على روسيا، كي يجري التعامل مع إسقاط الطائرة باعتبارها الشرارة التي تشعل الاحتراب. جاءت الحادثة ضمن سياقات التفاهم نفسه الذي لم تنته وظيفته بعد. الضربة في ذاتها لا تحمل إمكانية التصعيد. هذا ما يفسّر تشديد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن الحادثة ليست شبيهة ولا يمكن التعامل معها، مع حادثة إسقاط تركيا طائرة «السوخوي» عام 2015.

ثانياً، على رغم عدم توقّع التصعيد والتأزم، إلا أن إسرائيل وروسيا، ستعملان على مزيد من الإجراءات الوقائية الحمائية التي لا تسمح بتكرار الحادثة أو ما يشابهها. الإجراءات التي ستفرضها موسكو لن تجد أي معارضة إسرائيلية، إن لجهة الإجراءات التقنية العسكرية الوقائية أو لجهة المديات الجغرافية والحزامات الأمنية حولها. تكرار الخطأ مرفوض من قبل الجانبين، وقد يفضي إلى ما لا يريدانه، وهو ما ستحرص عليه إسرائيل، إلى حد التطرف في تطبيقه.

ثالثاً، الواضح، تأسيساً على النقطة الأولى، أن هامش حرية العمل الإسرائيلي ستكون مقيّدة، وفي حد أدنى جغرافياً، مع تقليص في القدرة على استخدام جزء من وسائلها القتالية التي تحمل في ذاتها خطراً وتهديداً على الوجود الروسي، وإن نظرياً. هذا يعني تقلص إمكانات إسرائيل، وإن نسبياً، في القدرة على فرض إرادتها على أعدائها في سوريا، والتي هي في الأساس مقلصة من حيث النتيجة. هذا ما تخشاه إسرائيل، وعبّرت عنه بالأمس، بل وكان مدار أبحاث ودراسات صدرت في العامين الماضيين في تل أبيب، حيال النقطة التي تدفع روسيا إلى تحويل وتغيير سياساتها تجاه إسرائيل. قد تكون ظاهرياً بدت هذه النقطة قريبة جداً في الأمس، لكنها جاءت في توقيت ومرحلة ما زال «شبه التخادم» ضرورة للطرفين، على تفصيل يطول.

رابعاً، كان لافتاً شبه الصمت الإسرائيلي، ومحاولة الاكتفاء بالبيان العسكري كما صدر عن جيش العدو من دون إضافات تذكر. أي الاكتفاء بالإعراب عن «الأسف» وليس الاعتذار، على سقوط قتلى روس، والعمل ضمن ديباجة و«تشاطر» كلامي، على تحميل سوريا وإيران وحزب الله، المسؤولية الكاملة عن إسقاط الطائرة، حتى مع الإثبات أن الفعل العدائي هو إسرائيلي.

يأتي ذلك في موازاة حراك، قيل أنه فاعل جداً من وراء الكواليس، لاحتواء الحادثة والتطلع إلى ما بعدها. لا خلاف أن إسرائيل معنية بتجاوز هذه الأزمة ومعاودة استئناف الأجندة الموضوعة للساحة السورية، فيما الكرة الآن في الملعب الروسي الذي بإمكانه أن يبقي أو يقلص أو ينهي التفاهمات بين الجانبين، وإن كان التقدير أن الموقف الإسرائيلي في «مفاوضات ما وراء الكواليس» في تموضع دفاعي، في محاولة لمنع تقليص هامش مناوراتها في سوريا، مقابل تموضع هجومي روسي، يقدر أنه سيعمد إلى الحد من هامش هذه المناورة والحد منها، لكن من غير المتوقع إنهائها بالمطلق في هذه المرحلة.

خامساً، يتوقع أن تكثف إسرائيل رسائلها التهديدية ضد أعدائها في سوريا، أي ضد الدولة السورية وإيران وحزب الله، عبر تصريحاتها ومواقفها وتحليلاتها وكتابات معلقيها، بدءاً من رأس الهرم السياسي والعسكري حتى أدنى المعلقين العسكريين في الإعلام العبري. التهديد الإسرائيلي مطلوب لذاته في هذه المرحلة، وهذا ما ستحرص عليه تل أبيب، إذ إنه يخدم موقفها في التأكيد على الثبات في فرض الخطوط الحمر ضد تمركز الأعداء ومنابع مقدراتهم في الساحة السورية، في إيحاء إلزامي، أن حادثة الطائرة الروسية لن تؤثر في التموضع الإسرائيلي الهجومي، وثباته واستمراره بالوتيرة المتبعة من دون تغييرات، وإن كانت نتيجة هذا المسعى، موضع تساؤل فعلي، وشكوك.