دافيد عيسى – سياسي لبناني
لست أبوح بسرٍ إذا قلت إنّ لديّ محبّة خاصة وكبيرة لرئيس المجلس النيابي نبيه برّي واحتراماً لشخصه وإعجاباً في إدارته للملفّات السياسيّة، وهذا يزيد ويكبر مع الأيام والتجارب التي تدل على استثنائيّة هذا الرجل الذي امتهن إدارة الأزمات والحلول، وسط متغيّرات كثيرة وتحوّلات كبرى ظلّ فيها نبيه برّي الثابت الوحيد منذ ما يقارب الأربعين عاماً.
مرّت على “أبو مصطفى” أيام صعبة مُرُّها أكثر من حلوها، اجتاز امتحانات واختبارات كثيرة ونجح فيها… واجه أزمات كثيرة ولم يستسلم يوماً، وكل مرّة كانت تشتد الأزمات وتهب العواصف كانت الأنظار تتّجه إليه لأنّ الحل لا يأتي إلا منه وعبره كونه يزينها كما يقولون “بميزان الجوهرجي”.
نبيه بري شكل على مدى 25 عاماً عامل ثقة واطمئنان و”صمام أمان” على الصعيد السياسي والوطني، فما سر هذا “النبيه”؟!
مما لا شك فيه أن نبيه بري راكم على مرّ سنوات وعقود خبرة سياسية هائلة وتجربة غنية بالدروس والعبر، وصار متمكناً من دوره، ملماً بالتفاصيل، ماسكاً في يده خيوط اللعبة، والأهم بات يمتلك القدرة الفائقة على إدارة التناقضات والتوازنات السياسية والوطنية لأنه بات مدركاً بعمق الواقع وخصوصية التركيبة اللبنانية الدقيقة في توازناتها الداخلية، المتداخلة في تناقضاتها المتشعبة وفي أبعادها الإقليمية.
من هنا تحديدآ يتفوّق نبيه بري على سائر أركان الطبقة السياسيّة في قدرته على اجتراح الحلول وتدوير الزوايا وإطلاق “الأرانب” والمفاجآت، إنّه الساحر السياسي من دون منازع.
ما يدعوني إلى قول هذا الكلام ويحفّزني عليه اليوم وإلى التعبير مجدّداً عن تقديري لدور هذا الرجل هو ما سمعته في الأمس مع سائر اللبنانيّين من مواقف وكلمات مسؤولة ووطنيّة أطلقها في مناسبة إحياء ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر في مهرجان بعلبك حيث أثبت مرّة جديدة أنّه المؤتمن الحقيقي والفعلي على إرث الإمام الصدر ووصاياه متشبثاً بوصيّة الإمام في ميثاق الحركة لجهة أنّها حركة اللبناني نحو الأفضل، وكذلك مواقفه في لقائه مع نقابة المحررين حيث أثبت مرّة أخرى أنّه حامي التوازنات …
من بعلبك أعلن نبيه بري الموقف اللبناني والوطني والسياسي وخاطب عقول اللبنانيّين والضمائر والوجدان العام، ومن بيروت أرسل بري إلى من يهمّه الأمر الإشارات والرسائل السياسية التي يتقن حبكها وتمريرها.
وفي الحالتين يبرهن نبيه بري، وعلى الدوام، عن حسٍ عال بالمسؤولية وترفّع عن الصغائر والحساسيّات والكيديّات، فهو أوّل من سهّل ودعا وبجديّة إلى الإسراع في تشكيل الحكومة حيث الوضع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم لا يحتمل نزف الانتظار والمناورات والتأجيل في المعالجات والقرارات والإصلاحات، كونه واعياً للمخاطر المالية والاقتصادية ويعتبرها الثغرة الكبرى في الوضع اللبناني الراهن وكافية لوحدها كي تشكل عامل ضغط وحث لقيادات الكتل والأحزاب كي يُضحّوا ويتنازلوا ويتواضعوا.
كما أنّ نبيه بري لا يكتم قلقه إزاء ما يجري حولنا وفي المنطقة ولا يتردد في التحذير من العواقب والانعكاسات السلبية على لبنان وفي الدعوة إلى تحصين الجبهة الداخلية. وفي وقت تنهمك القوى السياسية الأخرى في لعبة الحصص “السخيفة” وما يسمّى “الأحجام الحكوميّة”، ينصرف برّي إلى إثارة المسائل والقضايا الاستراتيجية والتصدي لها من مسألة النزاع الحدودي البحري والبري مع إسرائيل، وحق لبنان في أرضه ومياهه وثروته النفطية والغازية، إلى أزمة النازحين السوريين التي تنتظر الحل السياسي النهائي والشامل في سوريا ولا يمكن معالجتها من دون التنسيق مع الحكومة والسلطات السورية، إلى قضية اللاجئين الفلسطينيّين التي تتعرّض للتصفية على مراحل وفق خطة منهجيّة كان آخر فصولها القرار الأميركي بوقف تمويل وكالة الـ”أونروا”…
وهنا، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، لا بد من الإشارة إلى أنّ الرئيس برّي وَجَدَ رغم كل انشغالاته متّسعاً من الوقت للمساهمة في توحيد الصف والموقف الفلسطيني على الأراضي اللبنانيّة وجرى تحت رعايته وإشرافه قبل أيام التوقيع على وثيقة وحدة ومصالحة بين مختلف الفصائل الفلسطينية، وهذا ما عجزت عنه حكومات وأنظمة عربية حيث نجح الرئيس برّي في تحقيقه بمبادرة وجهود شخصيّة.
نبيه بري، صاحب الشخصية الغنية بالأفكار والمبادرات، المثقلة بالخبرات والتجارب، مطبوع بميزتين أساسيتين:
– لبناني حتى العظم، مؤمن بمشروع الدولة اللبنانية، مدافع صلب عنها، واقف في الخطوط الأمامية، وآخر تأكيد ومؤشر في هذا المجال كان وقوفه بقوة ووضوح مع الخطة الأمنية الخاصة بمنطقة البقاع الشمالي ودعمه للجيش اللبناني في مهمة إعادة هذه المنطقة بشكل كامل إلى حضن الدولة وتبديد الصورة السيئة التي تُعطى لها، من دون أيّ صلة بواقع أهلها وطيبتهم واندفاعهم والتزامهم بالدولة وسلطتها وقوانينها…
– نبيه برّي شخصيّة عابرة للطوائف والمناطق، محترم من كلّ القوى السياسية، وعلى علاقات سياسيّة مع مختلف الأطراف، ونادراً ما شكّل مسؤول أو زعيم مرجعيّة وطنيّة وسياسيّة لكل القوى والأحزاب في لبنان، اتّسمت بالانفتاح والتواصل والتعاون مع الجميع وقادرة على نسج شبكة علاقات واسعة وعميقة.
نبيه برّي واضح في مواقفه وسياساته وثوابته ولكنّه يبقى لغزاً محيّراً في مكمن القوّة لديه وسر تفوّقه وسحره وصموده وثباته رغم كل الظروف والمتغيرات وفي مطلق الأحوال…
يبقى لنا في الختام أنْ نقول لبنان بحاجة إلى نبيه برّي، إلى حنكته وعقله وخبرته وحكمته، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها المنطقة، كما كان بحاجة إليه منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وما تبع ذلك من اغتيالات وأحداث مأساويّة وحتى اليوم لقد كان بحكمته ودوره صمّام أمان الفتنة “السنّية الشيعيّة”.