علي حيدر – الأخبار
من الصعب تجاهل الوقع الاستثنائي الذي تركه خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للتحرير الثاني (تحرير الجرود من المجموعات الإرهابية) في الهرمل. وبرزت معالمه في توالي مفاعيله على الساحة الإسرائيلية، من خلال العديد من التحليلات والانتقادات.
ما الذي تميز به هذا الخطاب حتى كان وقعه قاسياً على النخب الإسرائيلية، وما هي الدلالات التي أغضبتها، حتى بدا كما لو أنه فضح واقعاً جهد قادة العدو سنوات لإخفائه ومحاولة تقديم صورة معاكسة له؟
الواضح أن نقطة الانطلاق هي إشارة السيد نصر الله إلى «ضعف العنصر البشري للجيش الإسرائيلي». إشارة أعادت استحضار خطاب بيت العنكبوت في الوجدان العام، وهو ما ورد على ألسنة العديد من المعلقين والخبراء. ويبدو أن هذا الأمر حضر أيضاً في خلفية مواقف العديد من المسؤولين الرسميين، الأمر الذي يُفسر حجم الغضب الذي برز في مواقفهم المنتقدة لشخصية السيد.
في السياق نفسه، بدا واضحا أن دقة المعطيات التي أوردها السيد نصر الله، والرسائل التي تنطوي عليها، لم تدع مجالاً لأي تعتيم أو تجاهل، بل إن اقتران ذلك، بالحديث أيضاً عن تطور القدرات العسكرية والتكنولوجية للجيش الإسرائيلي، التي تضاعفت منذ حرب عام 2006، قدمه كقائد يعرض صورة موضوعية عن الواقع الإسرائيلي بكل عناصره.
في ضوء تعدد الدلالات التي حضرت في المقاربة الإسرائيلية لخطاب السيد نصر الله، برز أيضاً، مجدداً أنه بالرغم من انشغال حزب الله خلال السنوات الماضية في التصدي لخطر التنظيمات الإرهابية في سوريا ولبنان… ما زال مواكباً لتفاصيل المجتمع الإسرائيلي ومهتماً بكل ما يتعلق بنقاط ضعفه وتطوره، إضافة الى ما يتمتع به من عناصر قوة.
أتى خطاب السيد نصر الله، بعد 18 عاماً من خطاب بيت العنكبوت في مدينة بنت جبيل، ليقول لهم قد تكون إسرائيل تغيرت على مستوى نوعية الأسلحة وتطورها، في البر والبحر والجو، وهو أمر يواكبه حزب الله على الدوام، ولكن ما هو حاضر لديه أيضاً، أنكم ما زلتم كما كنتم (بيت العنكبوت) بعد مضي كل هذه السنوات. التفسير البسيط أنه يمكن استبدال طائرة بما هو أكثر تطوراً منها، ولكن لا يمكن استبدال شعب بآخر، بقرار أو بتطور تكنولوجي!
في المقابل، صحيح أنه قد تحصل تحولات على مستوى الاستعداد للتضحية في مجتمع ما، لكن ذلك يتم بعد عملية تغييرية متواصلة وممتدة، تطاول عمق النظرة الى الحياة والإنسان… ومن ثم ينعكس ذلك على مستوى السلوك والموقف والأداء. لكن خطاب السيد نصر الله أتى ليقول للكيان الإسرائيلي إن الذي حصل لديكم هو أن مناعتكم الاجتماعية ما زالت تتحرك نحو الدرك الأسفل وهو الكفيل في حال اكتمال الشروط الإقليمية بتحويلها الى مأزق وجودي للكيان. يعني ذلك، أن ضعف مناعتكم الاجتماعية تشكل نقطة الضعف الرئيسية في منظومة الأمن القومي الإسرائيلي. ولا تخفى حقيقة أن هذا الجيش (الإسرائيلي) هو صورة عن طبيعة هذا الجمهور، كما أن الاستعداد للتضحية والتصميم لدى المقاومين هو تعبير عن روح البيئة الاجتماعية التي ينبثقون منها.
مشكلة القيادة الإسرائيلية أنها حاولت أن تبدد هذه الصورة، من خلال التلويح وممارسة أكبر قدر من التدمير للبيئة الاجتماعية التي تحتضن المقاومة، كما حصل في قطاع غزة. وهو ما حضر في كلام بنيامين نتنياهو فور انتهاء عدوان الجرف الصامد عام 2014، بالقول إنه لم يعد بالإمكان الحديث عن كون إسرائيل «بيت العنكبوت». في حين أن تبديل الصورة عن المناعة، يتم اختباره في التحديات وليس في المزيد من التكنولوجيا التدميرية، لأنه في حال اختراق هذه الحصانة التكنولوجية، يسقط المجتمع ومعه الكيان. أما الاختبار الحقيقي لتثبيت أو تبديد هذه الصورة، فيكمن في الصمود والتصميم عند تلقي الضغوط والخسائر الكبيرة، (كما هي حال بيئة المقاومة في لبنان وفلسطين) وهو ما أثبتت إسرائيل عكسه طوال السنوات الماضية.
في العمق، تبقى حقيقة قد تكون أكثر حضوراً لدى مؤسسات صناعة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وهي أن كلام السيد نصر الله هو تعبير عن صورة إسرائيل في وعي صنّاع القرار لدى المقاومة ومحورها، وهو أكثر ما يهم المؤسسة الإسرائيلية، أي عكس ما حاولوا ويحاولون زرعه في وعي الآخرين عبر تقديم إسرائيل كـ«جدار حديدي». مع ذلك، يجدر التذكير بأن هذا المفهوم لا يتعارض مع حقيقة كون إسرائيل دولة متطورة على المستويين التكنولوجي والعسكري، وتملك قدرات تدميرية هائلة.
وهنا المسألة ليست نظرية على الإطلاق، بل تشكل أحد أهم المنطلقات لتقدير منسوب المغامرة لدى صناع القرار الإسرائيلي، عندما يدركون أن هناك أثماناً هائلة سيدفعها الكيان الإسرائيلي، وأيضاً لتقدير قدرة صمود المجتمع الإسرائيلي في حال تعرض الجبهة الداخلية للضغط العسكري الذي لم يسبق أن شهدته إسرائيل طوال تاريخها. وأيضاً، يحضر هذا المعطى ـــــ لدى مؤسسات القرار الإسرائيلي ـــــ باعتباره عاملاً من عوامل تعزيز الثقة لدى المقاومة بالقدرة على المواجهة وتحقيق النصر، وهو ما أثبتته التجربة خلال العقود السابقة.
وما يعزز من خطورة هذه الدلالة، أيضاً، في الوعي الإسرائيلي أنها تأتي في سياق إقليمي مفصلي، وبعد انتصارات حققها محور المقاومة، وفي الوقت الذي تراهن فيه إسرائيل على مفاعيل سياسة التهويل التي تتبعها، لكن الحقيقة أن هذا الصوت المرتفع في تل أبيب، تهويلاً وتهديداً، يعكس منسوبا أعلى من القلق على المستقبل، أكثر من كونه تعبيراً عن الثقة بالقدرة على إحداث تغيير جذري في المعادلات الإقليمية.