كان يفترض أن توقظ خطة “ماكينزي” -الإستشاري الأميركي الرائد في مجال إعداد الخطط المستقبلية-، بعضًا من آمال اللبنانيين بنهضة آتية حتمًا لإقتصاد متهالك على ضفتي السياسة المحلية والأمن الإقليمي.
كان يفترض أن تقدّم “ماكينزي” خطة لعملية إنتقال نوعي للإقتصاد اللبناني ليكون إقتصادًا منتجًا، لا أن تكتفي بتوصيف الحال الراهنة والتحديات الاقتصادية، وتبحث في القطاعات التي توفر فرص عمل، وفق تصريح وزير الاقتصاد رائد خوري الأربعاء عقب إطلاعه رئيس الجمهورية ميشال عون على نتائج عمل 6 أشهر ماضية.
كان يفترض أن تساهم “ماكينزي” التي إعتبرت المحرّك الرئيس لمجال الأعمال في أميركا في ستينات القرن الماضي، في إنتشال إقتصاد لبنان من براثن التباطؤ عبر تقديم إقتراحات تنفيذية وبالأرقام لتكبير حجم الاقتصاد بما يعيد تحريك عجلة النشاط الذي كلما طال غياب الحلول، سجّل تدهورًا دراماتيكيًا غير محسوبة مفاعيله.
حين عُرض ملف تكليف “ماكينزي” على مجلس الوزراء مطلع العام، سجّل بعض من الوزراء المتمرسين بالملف الاقتصادي والمالي، ملاحظات جوهرية لم تؤخذ حينها في الحسبان. فسألوا: “هل المطروح هو البحث عن هوية إقتصادية للبنان؟ فهذا محدد بالدستور، ما نحتاجه هو خطة إنقاذية لحل المشكلات الآنية العالقة”.
وحذّر بعضهم الآخر من ضرورة إلزام الإستشاري بـ”نطاق العمل المطلوب ليكون واضحًا ومفيدًا تفاديًا لتخريج خطة غير عملية ونظرية وتاليا غير مفيدة”، فكان الرد: “سنطلب من الإستشاري خطة قطاعية للإقتصاد”.
فهل هذا ما خرجت به “ماكينزي”؟
ما سمعه اللبنانيون ولم يروه بعد، هو تقرير مرحلي يحكي عن “خطوط عريضة” لخطة لم ينته إعدادها بعد رغم تصوير الأمور وكأن الخطة النهائية قد وُلدت وستعرض لـ”التشاور” على بعض الجهات قبل إحالتها الى الحكومة المرتقبة.
عناوين عريضة أفصح عنها وزير الاقتصاد، عرّاب تكليف “ماكينزي”، مستوحاة من لقاءات أجراها الفريق الإستشاري مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي وعدد من الوزراء، ليتمّ إدراجها في بنود جديدها يعود الى بداية الألفية الثانية، وتمّ مزجها بتجارب مفيدة لعدد من دول العالم.
الخطة خلت في العناوين التي عُرضت عند باب قصر بعبدا، من أمور تكمن فيها الحلول: الرافعات والمحفزات الأساس للإقتصاد. فالخطة لم تتطرق الى المفاصل المهمة الآتية:
– النظام الضريبي الخانق لبيئة الأعمال والتهرّب الضريبي المنهك للخزينة العامة، والتعديلات الضرورية لتفعيلهما بما يصبّ في مصلحة الاقتصاد.
– مصادر التمويل لدعم القطاعات الاقتصادية. فالصناعة ستبقى “عالة” على الاقتصاد ما لم تحصل على بعضا من دعم رسمي يفضي الى خفض كلفة التشغيل المرتفعة.
– القوانين الموجودة وغير المطبقّة والتشريعات المطلوب وضعها او اخضاعها لتعديلات لازمة. ومنها على سبيل المثال، قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وأهمية تطبيقه في قطاع الاتصالات بعد تحريره طبعا وتوفير فرص تنافسية متكافئة للشركات المهتمة، فضلا عن البنى التحتية التي هي حاجة أساس لتطوير الاقتصاد وتكبير حجمه والتي تكفل توفير فرص عمل جديدة.
– قطاع النفط والغاز الذي دخل لبنان عتبته أخيرا، وتحديد حجم دعمه للإقتصاد كي لا تُهدر الثروات الموعودة في محاولات إعادة هيكلة الدين العام وتقليص حجمه من الناتج المحلي، ومعالجة كلفته المرتفعة التي تستحوذ على ثلث الموازنات العامة في لبنان.
– قصة النفايات العصية على الحلول منذ ثلاثة أعوام رغم تعاظم خطرها على السلامة العامة وعلى البيئة في لبنان، وانعكاسها ارتفاعا في الفاتورة الاستشفائية وانخفاضا في عدد السياح.
– قطاع الكهرباء- المعضلة الذي يرفع كلفة الإنتاج العام والصناعي تحديدًا، ويواصل إستنزاف المال العام بتكبيد الخزينة نحو ملياري دولار سنويا.
– قطاع العقارات المأزوم والذي يأسر نحو 20 مليار دولار على شكل إستثمارات مالية مجمّدة وربما مهدّدة. علما أن أهمية هذا القطاع تستند الى ارتباطه بتحريك نحو 70 مهنة وما توفرها من وظائف.
– النظرة المناطقية الى الحاجات الفعلية، علما ان مؤسسة “إيدال” وضعت دراسة عن حاجة المناطق الى الانماء ولم تلحظها خطة “ماكينزي”.
– الإضطراب في المناخ الداخلي والعلاقات مع الخارج وتقهقر علامات الثقة بلبنان كدولة جاذبة للسياح والرساميل الباحثة عن مجالات استثمار مجدية.
هذه هي رافعات الاقتصاد التي تجاهلتها “ماكينزي”، فجاءت بخطة قطاعية محددة لا يمكن اعتبارها “خطة نهوض” او “وجهة لبنان المستقبلية”، لانها عبارة عن تجميع أفكار عامة لحلول مبدئية لقطاعات معينة. أُريد لخطة “ماكينزي” أن تكون جزءا من “سيدر”، لكنها تأخرت وربما هذا أفضل بعدما تبين أنها خطة فارغة من المضمون المطلوب وكانت ستعجز حتما عن جذب المستثمرين لعدم جديتها.
خطة “ماكينزي” قتلت أحلام اللبنانيين بنهضة إقتصادية قريبة. لا يمكن لوم “ماكينزي” على ما قدمته. فهي كُلّفت تقديم هذه الورقة من وزير الاقتصاد وبعده من فريق العمل الرئاسي الذي سعى الى استصدار “إنجاز” سريع… فكانت النتيجة تقديم مستند مبدئي غير قابل للتطبيق وبكلفة 1.3 مليون دولار!