خبر

عوده يدعو إلى وقف الاستهتار بالكنائس: عادت معاناة كاتدرائية القديس جاورجيوس

 

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في وسط بيروت، وألقى عظة قال فيها: “إنجيل اليوم يتحدث عن مجنونين أخرج منهما الرب يسوع مجموعة من الشياطين، إلا أن هذه الشياطين، المجبولة بالخطيئة والوساخة، بدلا من أن ترحل، اختارت الدخول في قطيع خنازير كان يرعى، فلم تحتمل الخنازير، المشهورة أيضا بحبها للوساخة، وسخ تلك الشياطين، فرمت بنفسها في البحر وغرقت. يلفتنا كيف اعتراف الشياطين بأن الرب يسوع هو ابن الله، وبأنه أقوى منها وبأن حضوره يعذبها، كما يلفتنا أن الشياطين طلبت إذنا من الرب يسوع لكي تدخل في الخنازير. أما اللافت بالأكثر فهو موقف الناس، الذين لما عرفوا بما فعله الرب يسوع، طلبوا منه أن يغادر أرضهم، عوض أن يفرحوا ويطلبوا بقاءه ويلتمسوا بركته”.

أضاف: “نور قليل يفضح ظلمة دامسة. فكيف إذا كان هذا النور هو نور العالم، يسوع المسيح، الذي أتى ليخلص الجميع. لم يأت المسيح ليخلص مختارين، بل سمعنا في الإنجيل أنه خلص المجنونين من استحواذ الشيطان على حياتهما. الناس لم يكن يزعجهم وجود مجنونين مسكونين بالشياطين فيما بينهم. كان هذان يتعذبان وحدهما، والباقون يعيشون ما يظنونه سلام، يرعون خنازيرهم، ولا شيء يزعج مصالحهم. حضور المسيح جاء ثقيلا على ذوي المصالح، أما المجنونان، فكان حضور المسيح رفعا لأثقالهما، وخلاصا لهما من استعباد الشرير. الشيطان خداع، لا يهتم إلا لبث النزاعات والشقاقات بين الناس، لذلك استخدم اعترافه بالمسيح للشر لا للخير. جعل الناس الذين عرفوا أن المسيح هو من أخرجه من المجنونين يغضبون ويطردون يسوع من وسطهم. أليس بيننا كثيرون يستخدمون المسيح والكنيسة ليبثوا الشر والشقاق؟ أليس كثيرون يدعون محبة الرب ثم يقومون بما يخالف وصاياه؟ نعم، إن كثيرين منا لا يشكرون الرب على عطاياه، ولا يرون الخيرات التي يغدقها عليهم، ويعتبرون الخير الذي تفعله الكنيسة بثا للشقاقات والنزاعات. ليس هذا التفكير إلا عمل الشيطان، ونحن لضعفنا وضعف بصيرتنا نظن أنه يأتي من الرب. لماذا هلكت الخنازير؟ لأن الشيطان اختارها مسكنا له وهي لم تحتمل وجوده داخلها، لكن رعاتها اتهموا يسوع بأنه هو من أهلكها وألبوا الجميع عليه ليطردوه. ألا نفكر نحن بالطريقة نفسها؟ مثلا، إذا أرادت الكنيسة إنشاء جامعة، تصبح هذه الجامعة وكأنها أداة هدم وانشقاق، وهي ليست إلا أداة إعمار لعقول هدمتها الحروب والنزاعات والعلاقات البشرية التي يسود عليها الشرير في معظم الأحيان”.

وتابع: “يقول داود النبي “غيرة بيتك أكلتني” (مز 69: 9). كل ما يتعلق ببيتك يدافع عنه. قداسة الله تتطلب احتراما لقداسة بيته، فإن احتقر البيت الذي فيه ترفع الصلاة إليه، تحل اللعنة عوض البركة على الذين أساؤوا لحرمة بيت الله الذي قال عنه الرب يسوع: “بيتي بيت الصلاة يدعى” (مت 21: 13)، أي هو المكان الذي فيه يتوجه الإنسان إلى خالقه ويرفع قلبه ليتقدس بقداسة الله. وقداسة الله تتطلب قداسة في العبادة. عندما يحاول إنسان تشويه صورة العلاقة الإنسانية الإلهية يشعر محب الله بأنه يشتعل بغيرة إلهية ويردد مع داود: “غيرة بيتك أكلتني”. هذه الغيرة تشعل قلوبنا وتدفعنا لنقول: هذه الكاتدرائية عانت خلال سنوات الحرب ما عانت من تدمير وحرق وسرقة وتدنيس، أدت إلى إلحاق الضرر الكبير بها وإغلاقها. وبعدما ابتهجنا بقيامتها من بين الركام والحطام، عادت معاناة الكاتدرائية”.

وقال: “بدأت المعاناة الجديدة مع إنطلاقة ماراثون بيروت، الذي يقام يوم الأحد، والذي يجبر غالبية كنائس وسط بيروت على الإقفال في يوم الرب، اليوم الذي أوصانا ربنا بأن نحفظه. وإن لم يكن الماراثون سبب الإقفال يكون سباق الدراجات أو غيره من النشاطات. استمرت المعاناة مع انطلاقة المظاهرات وإقفال وسط بيروت والتضييق على المؤمنين من جهة الوصول إلى الكاتدرائية، وحتى الاضطرار على إقفالها، خصوصا مع انعقاد جلسات مجلس النواب. منذ مدة، أعيد افتتاح وسط بيروت أمام الناس، إنما لإعادة الحياة إليه لا تسهيلا لوصول المؤمنين إلى بيوت العبادة، وقد لجأ مفتتحوه إلى إقامة المهرجانات الدائمة في ساحة النجمة، الأمر الذي أدى، مجددا، إلى أضرار مادية ومعنوية تلحق بالكاتدرائية. فبسبب الموسيقى الصاخبة سقطت قطع أثرية ثمينة في متحف الكاتدرائية وتحطمت. وبسبب الموسيقى نفسها، سقطت أيقونات داخل الكنيسة وتأذت. ولإعادة إحياء المطاعم، عمد إلى توسيع مداها ليصير أمام مدخل الكاتدرائية. منذ فترة، أقيم برنامج يومي في الساحة، وضعت خلاله حواجز حديدية حول درج الكاتدرائية منعت المؤمنين من الوصول إليها، إذ كثيرون يحبون أن يقفوا أمام بابها ولو مغلقا ويناجوا الرب. وحتى اليوم، تقام المهرجانات المؤدية إلى إقفال طريق الوصول إلى الكاتدرائية”.

وسأل: “هل أصبحت الساحة، التي تضم مركز التشريع حاليا، وكانت تضم مدرسة التشريع قديما، أي أهم مدرسة للحقوق التي اشتهرت بيروت بوجودها وتغنت، والتي تخرج فيها قديسون تعيد لهم كنيستنا المقدسة، ساحة لهو ومهرجانات فقط؟ هل أصبحت بيوت الله آخر هم، هذه البيوت التي كان يزورها طلاب مدرسة الحقوق قبل الدخول إلى صفوفهم؟ الكاتدرائية ليست معلما سياحيا، وليست مستجدة في الساحة. هي متجذرة فيها منذ مئات السنين، والتاريخ المدني والكنسي، والوجدان البيروتي تشهد لها. ولا يخفى أن بعض المؤرخين يعيدون وجودها إلى القرن الرابع حين شيد أول بناء تحت الكنيسة الحالية المبنية على أنقاض ثلاث كنائس. كفانا استهتارا بالكنائس، وبيوم الأحد، يوم الرب. كفانا إهانة للمقدسات بهذا الشكل. كفانا استخفافا بالإنسان وثقافته. عودوا إلى الله لكي يزدهر عملكم، لأنكم من دونه لا تستطيعون شيئا. تذكروا أن القديسين يتشفعون بنا، ووجود الرب في حياتنا يقدسها، وقد قال الرب يسوع، إنه عند مجيئه الثاني قد لا يجد حفنة من المؤمنين به. وإن وجدت هذه الحفنة ستكون سبب خلاص العالم. عالمنا يهتم بكل شيء أرضي دنيوي، وينسى أن يكتنز كنوزا في السماء لا تفنى. إنسان اليوم يقدم اللهو على الإيمان، والسهر على الصلاة، وإشباع الرغبات على تهذيب العقل وصونه من الشوائب. كذلك يفضل إيجاد مكان يركن إليه سيارته على أن يصبح المكان مدرسة أو جامعة تعنى بإنشاء أبنائه وتربيتهم وتعليمهم. الكنيسة سوف تبقى كصوت صارخ في البرية أن خلاص النفس يتقدم على كل ما عداه. أما تهذيب العقل وبناء الشخصية وصقل النفس الإنسانية فسوف تبقى من أولى اهتمامات الكنيسة ولو تذمر المتذمرون. أملنا أن يثور أبناؤنا عند المس ببيوت العبادة والمقدسات بدلا من أن يثوروا إذا أريد تحويل موقف للسيارات إلى جامعة وصرح للثقافة والعلم والمعرفة. هل أصبحت السيارة وركن السيارة أهم من العلم والثقافة؟ هل بناء الوطن والإنسان قائم على السيارات أم على تهذيب العقل والنفس؟ أملنا أن يثور أبناؤنا على الصخب والضجيج الذي يمتد إلى آخر الليل ويجعل الساحة ساحة جشع فيها يعبد المرء معدته ويجعل منها إلها”.

أضاف: “مجتمعنا يستحق الفرح، بيروتنا تستحق الفرح، وقلبها جدير بالحياة والفرح، هذا القلب الذي هجره سكانه وأقفلت محاله بسبب توالي الأحداث فيه. طبعا حزنا لأن هذا القلب أقفر. وفرحنا عندما لاحت فيه بوادر الحياة وأصبح مسموحا لأهله أن يقصدوه. فرحنا عندما قيل لنا إن الحواجز ستسقط والطرق المؤدية إلى قلب بيروت ستفتح. وعلى أمل أن تفتح جميع الطرقات أمام جميع اللبنانيين وتسقط جميع الحواجز، نأمل أن يتمكن المؤمنون الذين يرتادون هذه الكنيسة من الوصول إليها بسهولة وبدون تفتيش أو مساءلة، لا لأن المولجين بتفتيشهم يزعجونهم، بل لأن المسألة مسألة مبدئية ومن حق كل لبناني أن يتجول في طرقات عاصمته بحرية دون أن تقف الحواجز في طريقه. نحن نشجع الرياضة كما نشجع الفن ونتذوقه وندعو أبناءنا في مدارسنا إلى التعرف على كافة الفنون من رسم وشعر وموسيقى وغيرها. لكن للفن مكانة وللصلاة مكانة، وعبادة الله تتقدم لأن الله الساكن القلب البشري ينقيه ويعده لاقتبال كل جميل. لا نكن كرعاة الخنازير الذين أزعجهم حضور الرب في مدينتهم فذهبوا وبثوا سموم كلامهم لدى شركائهم في العيش فقام الجميع بطرد المسيح. لا تجعلوا حياة اللهو تطغى على وجود الله في حياتكم. إلى أين ننحدر؟! هل من حضيض أعمق نصل إليه؟! لقد ارتفع المسيح على الصليب ليرفعنا معه، لكننا أحببنا الإلتصاق بهذا العالم ومغرياته. قوموا من تحت ركام الخطيئة مثلما قامت هذه الكاتدرائية من تحت ركام خطيئة الحرب التي سميت أهلية ولا أحد منا يرغب في تذكرها أو العودة إليها”.

وختم عوده: “محزن ما نشهده في هذه الأيام من تجاذبات من أجل اغتصاب الغنيمة الأكبر، عوض العمل على اغتصاب ملكوت الله. فكما أريد بث الحياة في قلب العاصمة، فلتبث أيضا في شرايين الوطن ليعود قلبه إلى الخفقان بنبض الديموقراطية والعدل والحق والمساواة بعيدا من المصالح والمحاصصات. ألا بارك الله هذا البلد، وأنار عقول أبنائه والمسؤولين عنه، حتى يعرفوا أنه لا قيامة للبنان إلا إذا عاد إلى الرب القائم من بين الأموات، ولا خلاص للمسيحيين، الذين نسمعهم دوما يطالبون بحقوقهم ولا نراهم في الكنائس، إلا بالرجوع إلى تطبيق وصايا الرب القائل على لسان نبيه إشعياء:” تعلموا فعل الخير. أطلبوا الحق. أنصفوا المظلوم. أقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة” (1: 17). إن كان الرب معنا فلا أحد علينا (رو 8: 32)، والله مع القلب المتخشع، المحب، المتواضع، الرحوم، كما هو مع كنيسته إلى الأبد، لذلك لن تقوى عليها أبواب الجحيم (مت 16: 18)”.

وكان تعذر وصول المؤمنين إلى الكاتدرائية بسبب إقفال الطرقات المؤدية إليها، وهذه ليست المرة الأولى التي تقفل فيها الطرقات بسبب نشاطات متعددة.