تبريد التراشق القائم بين "التيار الوطني الحر" وبين حركة "أمل" ومحاولة وضعه في سياق عقلاني – سياسي، يفقده سمة التشويق والترقب التي يعيشها اللبنانيون منذ أيام، وهذان مكونان أساسيان في السياسة اللبنانية التي تعطي الاستعراض والمشهدية وتبديل النبرات والاصوات قيمة عالية.
نزع الطابع الترفيهي عن السياسة وجعلها نصوصاً جافة أشبه بالمحاضرات الأكاديمية، ليس من المزاج العام الذي أفرز الطبقة الحاكمة في لبنان، الآتية في أغلبها من عنتريات القرى و"قدّ المراجل" ومنابر الزجل، اضافة الى مؤامرات الاغتيال والتصفيات العشائرية والحزبية. وهذه ممارسات يسهل عليها تبني خطاب "تكسير الرؤوس" أكثر من النقد الموضوعي، والشتائم أكثر من الاعتراض المنهجي. وشيطنة الخصم وتحويله عدواً سرمدياً أسهل على العقل السياسي اللبناني (إذا صح أنه عقل وانه سياسي، وفق معايير أكثر دقة) من اللجوء الى التسوية والاعتذار والحوار والنقد. الأول يأتي بالجمهور لاهثاً طالباً الثارات. الثاني يُظهر لجمهور تتلاعب به دفقات هورمون التيستوستيرون الذكوري، الزعيم عاجزاً ضعيفاً، في بلاد لا يعلو فيها صوت على صوت الرجولة والمعارك وصليل السيوف وزغردات النساء في أعراس الدم.
وتقترب من البداهة الفكرة القائلة أن التصعيد بين أطراف الحكم اللبناني يخدم غايات انتخابية. فالكل يرمي الى حشد جمهوره قبل أشهر قليلة من التوجه الى صناديق الاقتراع. وبما أن لا برامج عند أي من الاطراف المتنافسة، باستثناء مجموعة مرشحي المجتمع المدني، فإن الطريق الأقصر إلى قلب الناخب تمر باللعب على عصبيته لضمان التحاقه التام بالجماعة الطائفية، عندما يدعو داعي الانتخابات.
هذا ناهيك عن إدانة مسبقة ولاحقة لتقاسم الأدوار بين جبهات الانقسام السياسي والطائفي، وهو تقاسم ذاتي العمل لا يحتاج الى صيانة ولا الى سكب الزيت بين أسنان عجلاته ليدور. وعندنا، يجني السياسيون الأرباح المالية والانتخابية، من الاقتتال ومن التهادن ومن الصدام ومن السلم، سواء بسواء.
بيد أن الفكرة البسيطة هذه لا تكفي لتفسير حدة السجال بين طرفين رئيسين في الحكم، "التيار الوطني الحر" وحركة "أمل"، ذلك أن المناطق التي يتنافسان فيها انتخابياً ليست هي مناطق الثقل النوعي عند الجانبين. كما يسع "أمل" و"الوطني الحر" الارتياح الى العدد المضمون من المقاعد النيابية في المجلس المقبل بما يجعلهما من كبار ممثلي الشيعة والموارنة، على التتابع، بحسب التوزيع الطائفي للمقاعد والذي لن تؤثر فيه لمسة "النسبية" التي أضيفت الى قانون الانتخابات الجديد.
بكلمات ثانية، تشير الموجة الحالية من الصراع العوني – الأملي الى ما يتجاوز، ولو بحدود، التنازع المسرحي الموجه والمفيد لطرفي الخلاف. لمح عدد من المنخرطين في القصف الإعلامي المتبادل إلى الخلفية الدستورية للمشكلة التي بدأت مع اصدار مرسوم ترقيات دفعة ضباط سنة 1994 من دون توقيع وزير المال، قبل أن تتمدد وتشعل ملفات قديمة "تهم اللبنانيين" على ما قال رئيس التيار الوطني في الفيديو المسرب لحديثه أمام مؤيديه.
الصورة الأوسع تشير إلى صدامٍ بين حيويتين، شيعية صاعدة منذ سبعينات القرن الماضي أثبتت جدارتها في الاستحواذ على مساحات واسعة من الحياة العامة ومن مؤسسات الدولة بعد اتفاق الطائف وبعد تهشيم مشروع رفيق الحريري، وبين حيوية مارونية مستأنفة ترى انها تخوض "حرب استعادة" لمواقع ومزايا فقدها المسيحيون بعد هزيمتهم في الحرب الاهلية لمصلحة السنّة والشيعة. الالحاح على استعادة الحقوق، سيان كانت هذه الاخيرة حقيقية او متوهمة وسيان كان مسيحيو اليوم أهلا لادارة لبنان على النحو الذي فعلوه بين 1943 و1989 أو غير أهل لذلك، يأتي متناقضاً مع وضع استقر منذ ارساء الاصلاحات الدستورية التي نص الطائف عليها، وحظي بقبول دولي وعربي لم يأخذ يومها الاعتراضات المسيحية بعين الاعتبار.
وجلي أن "التيار الوطني الحر"، اذا لم يتراجع ويعيد النظر في خطابه وسلوكه، سيكرر أخطاء القيادات المسيحية ذاتها في العقود الماضية. وإذا كانت القيادات القديمة راهنت في مراحل على التناقضات العربية وعلى الغرب واسرائيل وهي رهانات اتضح ضلالها، فإن السؤال هو على ماذا او من يراهن رئيس التيار الوطني في صراعه مع عصبية شيعية ما زالت في أوجها خصوصا بعد سلسلة انتصارات مفترضة في سوريا والعراق ولبنان حيث تحطمت الى شظايا محاولة المواجهة مع التمدد الشيعي، بجناحيه "حزب الله" و"امل".
من مصلحة التيار العوني البحث عن استراتيجية خروج من مأزق وضع نفسه فيه. وهو مأزق يصطدم بالتكوين الجديد للصيغة اللبنانية حتى لو عاد على العونيين ببعض الاصوات وعدد من "اللايكات" على مواقع السوشال ميديا.
المصدر: درج