خبر

عام الخيبات “السلمانية”

أحلام الحاكم بأمره لا تتحقق: عام الخيبات «السلمانية»

فؤاد إبراهيم – الاخبار

في مثل هذا اليوم من عام 2017، اعتلى محمد بن سلمان سدّة ولاية العهد في السعودية. تطوّر فتح الباب على تغيرات كثيرة وعميقة في البلاد، كان الأمير الشاب قد بدأ بالتخطيط لها منذ أن تم تدشين الحقبة «السلمانية» في المملكة. ومع مرور عام على تسلّمه منصبه الأهم، تبدو طموحات ابن سلمان وأحلامه بعيدة من التحقق، في ظلّ إخفاقات داخلية وخارجية تلاحقه على المستويات كافة، وتناقضات متفاقمة تنذر بأخطار كيانية على السعودية، التي لطالما شكّل التفسّخ البيولوجي أحد أكبر هواجسها.

عامٌ مرّ على عبور محمد بن سلمان العتبة الأخيرة نحو العرش، إثر إطاحته غريمه اللدود محمد بن نايف. كل ما عدا ذلك وتلاه من عمليات إطاحة كان حتمياً، بعدما ضمن ابن سلمان التأهل إلى مباراة العرش النهائية. ضربات متسلسلة وممنهجة سدّدها الأمير الشاب ضد الخصوم المباشرين والكامنين عن طريق ركلات الأوامر الملكية القاضية التي غيّرت المشهد السياسي للمملكة ونقلتها إلى سكة تاريخية جديدة، بما يتطلّب قراءة بالغة الجدّة. إذ إن ثمة تمزّقاً واسعاً لشبكة علائقية في أنسجة الدولة والمجتمع، سواء على مستوى العائلة المالكة، أو المؤسستين السياسية والدينية، أو القوى الاجتماعية التقليدية، أو الأنماط الاقتصادية، أو الأنسقة الثقافية والأدبية… بكلمة واحدة: هي مملكة جديدة.

ما حصل في الفترة الواقعة ما بين 23 كانون الثاني/ يناير 2015 و4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، من عمليات إزاحة ممنهجة لبيوتات ملكية، أفضى ختاماً إلى تمركزٍ نُواتيٍ للسلطة؛ إذ بات ابن سلمان أوتوقراطياً فريداً في تاريخ الدولة السعودية، لا شبيه له سوى الملك عبد العزيز، مؤسس المملكة، على رغم أن الأخير كان يحكم دولة بدائية في تكوينها المؤسسي قياساً إلى المنظومة البيروقراطية المعقدة حالياً. إعادة تشكيل السلطة في عهد الملك سلمان آل إلى تقويض إرث عائلي وبيروقراطي موغل في القدم، لحساب آخر يعتصم بمبدأ تركيز السلطة في بيت سلمان. في النتائج، ألغت فرامانات الأخير السلطانية تقليداً راسخاً في تقاسم السلطة يقوم على مبدأ التراتبية داخل العائلة المالكة. لم تعد هناك أجنحة بخصائص متمايزة، بل معادلة حكم جديدة هي: سلمان والآخرون. لا تُحدث التغييرات التجميلية أدنى تغيير في المعادلة تلك، فالمناصب التي يمنحها سلمان في هيئة ترضيات لأبناء الخاسرين في معادلة العرش لا تندرج في سياق توزيع أو بالأحرى تقاسم السلطة، بل هي إعادة بناء شبكة تحالفات جديدة مصمّمة لترسيخ معادلة الحكم المستحدثة.

ثمة جدل يدور حول مفكّرة النوايا لدى ابن سلمان بعد اعتلائه العرش، لا سيما في ما يتعلق بمبدأ التوريث الذي قد يجعله امتيازاً حصرياً لأبنائه بدلاً من إخوته، خصوصاً أنه يتطلع إلى أن يحكم البلاد خمسين عاماً، بما يمنحه وقتاً كافياً لتشكيل السلطة على هواه. لا ريب أننا هنا أمام أحلام ساذجة، ولكن من حسن حظ المتضررين منها إفصاح أصحابها عنها، فابن سلمان يفترض التعامل مع تاريخ ساكن لا يحتمل ارتقاء وعي الرعايا، ولا تبدل أحوال البلاد والعباد، ولا حتى أحوال الحلفاء والأعداء. أمضى ابن سلمان، منذ إطاحة محمد بن نايف وحتى «حملة الريتز» في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، تسعة شهور – لم يغادر خلالها البلاد – في متابعة حملات الاعتقال الواسعة التي شملت الفئات الاجتماعية كافة. تحوّلت المملكة السعودية إلى سجن كبير، وقابل الانفتاحَ الاجتماعي الذي أثار صخباً في الإعلام قمعٌ شديد وغير مسبوق للحريات السياسية، حتى فاق عدد معتقلي الرأي في المملكة 20 ألفاً، في حملات متصاعدة تعيد إلى الأذهان سيرة الملك فيصل في ستينيات وسعبينيات القرن الماضي، حيث مُلئت السجون بدعاة الإصلاح، وأمضى بعضهم سنوات طويلة تجاوزت العشرين عاماً، فيما فارق آخرون الحياة تحت التعذيب.

في ملف العلاقات السعودية – الأميركية، ثمة وظيفية بطابع وجودي وكياني تظهر من خلال نوع الصفقات التي أبرمها ابن سلمان مع إدارة دونالد ترامب. لم تعد معادلة «النفط مقابل الحماية» هي عنوان التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن. مكوّن النفط ليس حاسماً بعد الآن، لا سيما عقب تصدّر الولايات المتحدة قائمة الدولة المنتجة للنفط على مستوى العالم مُتقدِّمةً على روسيا والسعودية. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تتصدر الدول الأكثر استهلاكاً لهذه السلعة الحيوية بمعدل 19.396 مليون برميل يومياً، ولكن مستقبل إنتاج النفط الصخري سوف يطيح ثوابت سوقية، ومن المرشح وصول الولايات المتحدة إلى الاكتفاء الذاتي من النفط في غضون سنوات قليلة. بالنتيجة، ما كان يمثل أساس التحالف الحيوي بين واشنطن والرياض لم يعد راسخاً بدرجة كافية، وهذا ما يفسر الهبّة الاستثمارية التي قادها ابن سلمان في جولته الخارجية في آذار/ مارس الماضي، في سياق إعادة الروح إلى نظام الحماية الأميركية للسعودية. ومن سوء حظ ابن سلمان أن يتوقف العمل بنظام الحماية القديم في ظل رئيس لم يمرّ نظير له في تاريخ الرئاسات الأميركية من حيث الفصاحة في الجشع والابتزاز. وإلى جانب جشع الإدارة الأميركية الحالية، والذي يحيل النظام السعودي رهينة – بالمعنى الحرفي للكلمة – بيد ترامب، يأتي تزايد التناقضات الداخلية على مستوى العائلة المالكة، وبين ابن سلمان والمؤسسة الدينية، والقوى الإصلاحية، والفئات الاجتماعية المتضررة من التدابير الضريبية والبطالة والاختناق المعيشي، والتناقضات الخارجية على مستوى الحروب (اليمن، سوريا)، والتوترات (إيران، قطر)، والخسائر السياسية (العراق، لبنان)، ناهيك عن العلاقات المأزومة مع بلدان عربية وإسلامية بفعل عبثية الفريق الدبلوماسي السعودي (تركي آل الشيخ، سعود القحطاني، ثامر السبهان).

ويبقى السؤال الأكبر دائماً حول «رؤية السعودية 2030» المُعلَن عنها في نيسان/ أبريل 2016. فبعد مرور عامين على إعلانها، يؤشر المتوافر من معطيات إلى ما وصفته مجلة «فوربس» بـ«الانهيار». جولة ابن سلمان في آذار/ مارس الماضي كانت بمثابة محاولة إنقاذية للخطط الاقتصادية التي صُوّرت بوصفها «ثورة» استثمارية منتظرة سوف تشهدها المملكة، مشفوعةً بإعلان طرح «البقرة المقدسة» (أرامكو) للاكتتاب العام، والذي لا يبدو أن مسألة إطلاقه قد حُسمت حتى الآن، بسبب مخاوف قانونية في أميركا (قانون جاستا)، وأخرى سوقية (لا يزال أمر القيمة السوقية للشركة ضبابياً). رهان ابن سلمان الاستراتيجي كان ولا يزال على «خطة التحول الوطني»، التي وعد بأن تكون «الوصفة السحرية» لانتقال السعودية من اقتصاد أحادي يقوم على النفط، إلى آخر متعدد يجمع بين النفط ومروحة واسعة من مصادر الدخل، عمادها الاستثمار في الأسواق العالمية، وبناء المدن السياحية، وتوطين الصناعات الأجنبية المدنية (لا سيما التكنولوجية والعسكرية)… إلخ. لم يحقّق ابن سلمان، حتى الآن، ما وعد به، ولا يزال الوعد يسبح في الفضاء فحسب. فالشركات الأميركية تستثمر في دول الجوار السعودي بسبب عدم ثقتها في الإجراءات الشكلية التي قام بها ابن سلمان تحت عنوان «مكافحة الفساد». أولئك الذين تضرّرت مصالحهم، لا سيما الشركاء التجاريون الدوليون للوليد بن طلال وصالح كامل ومحمد حسين العمودي وغيرهم، حذرون إزاء فكرة الدخول إلى السوق السعودية. وتُضاف إلى ذلك هجرة الأموال إلى الخارج، والتي قُدِّرت بـ64 مليار دولار في الربع الثالث من العام 2017.

لناحية مقاربة ابن سلمان للخصخصة، فهي تصدر عن استراتيجية «العلاج بالصدمة» التي ابتكرها عالم الاقتصاد الأميركي، ميلتون فريدمان، وعمل عليها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتقوم على «انتظار وقوع أزمة كبيرة، يُعمد في أعقابها إلى بيع أجزاء من البلد المنكوب للاعبين من القطاع الخاص، بينما يكون المواطنون لا يزالون في حالة من الذهول إزاء الصدمة، ويُسارَع بعدها إلى جعل تلك الإصلاحات دائمة». جرى تطبيق هذه الاستراتيجية في إدارات أميركية منذ التسعينيات، وحقّقت نجاحات نسبية في قطاعات خدمية على وجه الخصوص. ما يحاول ابن سلمان فعله يقترب إلى حد كبير من المجازفة التي تبنّاها فريق عمل جورج بوش الابن، باستغلال هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، وتوظيف الحروب والكوارث لجني الأرباح. بالنسبة إلى الأمير الشاب، تندرج الحملة على الفساد، ومحاربة التطرف الديني، والإجراءات الاقتصادية الراديكالية الأخرى جميعها في إطار «العلاج بالصدمة»، وهي لا تختلف كثيراً عن الهدف الذي وضعه بوش نصب برنامجه الاقتصادي، والمتمثل في جني الأرباح وتحويل دور الحكومة إلى مجرد جابٍ للأموال. وقد أفصح ابن سلمان عن تبنيه لفكرة «العلاج بالصدمة» في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» في 28 شباط/ فبراير الماضي.

تنعكس الصدمة نفسها في الارتجالية غير المسبوقة التي تَسِم عملية صنع القرار في السعودية. يبدو ذلك جلياً في المواقيت المتبدلة لطرح المؤسسات الحكومية المراد خصخصتها، بدءاً من شركة «أرامكو» التي خضع موعد طرحها للاكتتاب العام لتبدلات عدة. ولكن ما هو أخطر من ذلك، أن سياسة الخصخصة لم تستند إلى رؤية شاملة، أخذاً في الاعتبار شروط التنمية المستدامة، والمشكلات العالقة والمزمنة التي يعاني منها المواطنون، والتي تتطلب مقاربة مختلفة للخصخصة تقوم على أساس المشاركة بين الحكومة والمواطن كما بين القطاعين العام والخاص. وقد كشف أحد رجال الأعمال عن الدافع وراء إشراك القطاع الخاص في العملية الاقتصادية في المرحلة المقبلة بقوله: «إن الحكومة تمرر مشاكلها السياسية للقطاع الخاص». والجدير ذكره، هنا، أن العمالة الوافدة تشغّل 90 في المئة من وظائف القطاع الخاص بسبب تدني الأجور، و45 في المئة من هذه الوظائف هي في قطاع البناء والتشييد، وهو قطاع غير مرغوب فيه من السعوديين.

مؤشرات المساكنة بين القطاعين العام والخاص تبدو غير مشجعة. ظهر ذلك بوضوح في الاجتماع بين مسؤولين كبار في الحكومة السعودية ورجال أعمال محليين في أواخر نيسان/ أبريل 2018، لمناقشة تحرير المملكة من الاعتماد على صادرات النفط. حمّل بعضهم خطة ابن سلمان الاقتصادية مسؤولية التعثر، وقال كثير منهم إن زيادة الرسوم المفروضة على جلب العمالة الأجنبية هي أكبر عبء عليهم، كونها تجعل عسيراً الاستمرار في توظيف الأجانب، على رغم أنه من شبه المتعذّر العثور على سعوديين مدرَّبين ليحلّوا محلهم. وعليه، فإن التعويل على القطاع الخاص لحل مشكلة البطالة، وخلق فرص عمل للشباب، غير مستند إلى حقائق، بل إلى وعود غير واقعية. فالانكماش الاقتصادي على المستوى الوطني نتيجة العجز في الموازنة واعتماد سياسة التقشّف كرد فعل، يضعفان في نهاية المطاف قدرة القطاع الخاص على أن يكون ملاذاً للدولة. حقيقة تُضاف إلى حقائق أخرى لا تقلّ بؤساً، وعلى رأسها البطالة (المختلَف على نسبتها، التي تصل بحسب تقدير فهد بن جمعة، عضو مجلس الشورى، إلى 34.5 في المئة وفق تصريح له في 10 كانون الثاني/ يناير الماضي، ويقترب ذلك كثيراً من تقدير الهيئة العامة للإحصاء)، والفقر الذي تصل نسبته إلى 20 في المئة وفق معايير منظمة الأغذية العالمية، في مقابل الأعباء الضريبية المتسارعة بعدما تحوّل جيب المواطن إلى مصدر دخل عام للدولة إلى جانب النفط.

لا تدار الدول بالنبوءات، كما لا تسقط بها، ولكن تجارب التاريخ تزوّدنا بدروس في هيئة نبوءات عن العوامل الضالعة في التفسّخ البيولوجي للدول على اختلاف أحجامها. إن قائمة الخيبات خلال عام من تسلّم ابن سلمان ولاية العهد، وإمساكه بخيوط السلطة بصورة كاملة، هي من النوع الذي ينطوي على أخطار كيانية. فهاجس التفسخ البيولوجي للمملكة لم يبرح دوائر صنع القرار في السعودية، وهو الآن يزداد توهّجاً. وفي نهاية المطاف، لا مفرّ من يوم خُطَّ بالقلم، يحصد فيه ابن سلمان خيباته.

الاستثمار الأجنبي في الحضيض

يفيد تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، في 7 حزيران/ يونيو الجاري، بأن الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة في العام الماضي بلغ 1.4 مليار دولار فقط، مقارنة بـ 7.5 مليار دولار في العام السابق، و12.2 مليار دولار في العام 2012. ويعني هذا الانهيار أن البلاد تراجعت إلى مرتبة الاقتصادات الأصغر حجماً من حيث قدرتها على جذب الاستثمارات الدولية، مع حلول أمثال سلطنة عمان والأردن مكانها، حيث بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في الدولتين نحو 1.9 مليار دولار و1.7 مليار دولار على التوالي. الأمر نفسه يتجلى لدى مقارنة حجم الاستثمار القادم إلى السعودية ببقية منطقة غرب آسيا. ففي حين كانت المملكة تحوز حوالى ربع إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر بين عامي 2012 و2016، فإنها لم تجذب سوى 5.6 في المئة العام الماضي. وفيما كان الاقتصاد السعودي يخسر، كان آخرون يحصلون على حصة أكبر من كعكة الاستثمارات الأجنبية. فقد ارتفعت حصة الإمارات من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى أكثر من الضعف خلال السنوات الست الماضية، في حين تمكنت قطر الخاضعة للمقاطعة الاقتصادية من زيادة استثماراتها الأجنبية، مُستقطِبةً 986 مليون دولار في عام 2017 مقارنة بـ774 مليون دولار في عام 2016.