خبر

إنعطافة “حزب الله” الاقتصادية … الأسباب والدوافع

 

دافيد عيسى

لا نذيع سراً ولا نكشف مستوراً إذا قلنا إنّ الاقتصاد هو محرّك الأزمات والحروب والسبب الرئيس في نشوبها، وهو محرّك الحلول والتسويات والدافع الأوّل إلى صنعها وإنتاجها… وأنّ المصالح الاقتصادية تسمو على غيرها من مصالح أمنيّة وسياسيّة وثقافيّة وهي التي تحدّد العلاقات والتحالفات والاستراتيجيّات في العالم.
الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية…
الحدث الأخير الذي استضافته سنغافورة وتمثّل في لقاء تاريخي بين رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب وزعيم كوريا الشماليّة كيم جونغ اون وخلص إلى إطلاق حوار مفتوح على قاعدة نزع السلاح من شبه الجزيرة الكورية، هذا الحدث الذي يُدخِلُ العالم في عصر جديد ما كان ليتم وبهذه السرعة لولا العامل الاقتصادي الذي كان في أساس التحوّل الطارئ في موقف كوريا الشمالية.
وبعدما كانت كوريا الشماليّة متمسّكة بسلاحها النووي وما تعتبره ورقة قوّة في يدها، فإنّها تُبدي استعداداً للتخلّي عن برنامجها النووي بعدما اكتشفت نقطة ضعف أساسيّة متمثّلة في الضغوط الاقتصاديّة والماليّة وتدفعها إلى مراجعة سياستها وإلى تقديم تنازلات “نووية” مقابل الحصول على ضمانات وتعهّدات برفع العقوبات الدوليّة المفروضة عليها وفك عزلتها واسترداد مكانتها الدوليّة ما يفتح الباب أمام توقّف استثمارات ومشاريع ومساعدات دولية هي في أمسّ الحاجة إليها لتطوير الدولة والمجتمع وتحسين مستوى المعيشة والخدمات.
وإذا كان لقاء القمّة بين ترامب وكيم يذكّرنا بلقاء تاريخي مماثل حصل في العام 1988 بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان والرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف، فإنّه يذكّرنا أيضاً بأنّ سقوط الاتحاد السوفياتي كان سقوطاً اقتصادياً بالدرجة الأولى ولم يتفكّك بالقوّة العسكريّة بل بقوّة الأزمة الاقتصاديّة…

إيران…
ما حدث في كوريا الشمالية نرى شبيهاً له في إيران حيث تحاول إدارة ترامب تطويع موقف طهران أيضاً وحمل القيادة الإيرانية على توقيع اتفاق جديد مشابه للاتفاق الذي وُقِّع بالأحرف الأولى مع كوريا الشماليّة ويتضمّن نزعاً شاملاً للسلاح النووي واحتواءً منظّماً للبرنامج الصاروخي البالستي.
فما أخفقت أميركا في الحصول عليه من إيران عن طريق الترغيب والترهيب وبالوسائل السياسية والضغوط العسكرية في العراق وسوريا، تسعى للحصول عليه عن طريق العقوبات والضغوط القويّة على الاقتصاد الإيراني…

اليمن …
وما يحدث في اليمن أيضاً من حروب ومواجهات منذ ثلاث سنوات يتجاوز مسألة صراع داخلي على النظام والدولة والشرعيّة ويأخذ طابع صراع إقليمي على اليمن يمثّل موقفاً استراتيجياً بحكم ممرّاته المائيّة الحيويّة المتحكّمة بجزء هام من التجارة الدوليّة وإمدادات النفط…

سوريا…
وما يحدث في سوريا حالياً من صراع دولي – إقليمي أطرافه روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وغيرها من الدول ليس فقط صراعاً على مستقبل سوريا السياسي وطبيعة نظامها ومن يحكمها لسنوات وعقود وإنّما هو بالدرجة الأولى صراع على إعمار سوريا وثرواتها واقتصادها. فعمليّة إعادة الإعمار تصل تكاليفها إلى نحو 200 مليار دولار وستكون أكبر عمليّة إعمار في بلد منذ الحرب العالميّة الثانية، وثروات سوريا من النفط والغاز ستقفز إلى مرتبات عليا في ضوء الاكتشافات الجارية في شرقي البحر المتوسط إضافة إلى ما تختزنه الأرض في شرق سوريا ولم يتم اكتشافه واستخراجه بعد…

لبنان…
نصل بعد استعراض الوضع في المنطقة ولو بشكل مختصر، إلى لبنان لنقول إن الاقتصاد وأكثر من أي شيء آخر سيكون عنوان المرحلة والدافع الأوّل لدى المسؤولين والسياسيّين لإجراء مراجعة عامة للسياسات والخيارات والخطط المستقبليّة.
فإذا كان لبنان يغرق في أزمة اقتصاديّة وماليّة خانقة من جراء ارتفاع حجم الدين العام إلى مستويات قياسيّة، واتّساع الفجوة بين الإيرادات والنفقات العامة، وانكفاء الاستثمارات، وتقلّص فرص العمل، وازدياد موجة الهجرة إلى الخارج ولاسيّما في صفوف الشباب، وكل ذلك لأسباب اقتصاديّة، فإنّ الخلاص من هذه الأزمة وبداية الخروج منها لا يكون إلا عبر طرق اقتصاديّة واستغلال موارد النفط والغاز المكتشفة في البحر، وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أنّه لا يمكن التعويل على النفط والغاز ما لم تكن هناك إدارة سليمة وشفّافة لهذا القطاع تقضي على كل احتمالات ومشارب الهدر والسرقة للمال العام…
الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية هي أيضاً مفتاح المساعدات الدوليّة الاقتصاديّة والماليّة وشرط أساس لاستمرارها ولترجمة مؤتمرات الدعم التي انعقدت في باريس وروما وبروكسل، ومن دون هذه المساعدات سيكون لبنان عاجزاً عن مواجهة أعباء وكلفة النزوح السوري الخطير على الصيغة والتركيبة اللبنانيّة، مثلما سيكون فاشلاً في استعادة توازنه المالي والاقتصادي وفي الخروج من المأزق العام الذي يضيّق عليه الخناق وسط ضغوط دولية متنوعة ومن ضمنها العقوبات المفروضة على “حزب الله”.
ومن هنا بات “حزب الله” مدركاً لأهميّة وخطورة الموضوع الاقتصادي على الاستقرار العام في البلاد، وهذا ما يدعو الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله على التركيز على الوضع الاقتصادي في كل إطلالاته الإعلاميّة الأخيرة، وليس صدفة أو عرضاً أنْ يُقرّر “حزب الله” الدخول إلى الملف الاقتصادي والانخراط بشكل أفعل في مشروع الدولة وإداراتها وسياستها الماليّة والاقتصاديّة لو لم يكن متيقّناً من دقّة الوضع الاقتصادي وخطورته وأنّه لا يمكن الاستمرار بهذا الوضع وهذا النهج المتّبع في مقاربة الأزمات وإدارة الأوضاع. فهو يعرف جيداً أنّه إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإنّنا مُقبِلون على انهيارات اقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة لن يَسلَمُ من نتائجها وتداعياتها أحد وسيسقط الهيكل على رؤوس الجميع وستغرق السفينة بما ومن فيها.
وإذا كان “حزب الله” بادر إلى إحداث “إنعطافة اقتصادية” في استراتيجيّته العامة، فإنّ رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري مدرك تماماً أيضاً أهميّة الموضوع الاقتصادي والوضع الصعب الذي يواجهه لبنان والذي بات لا يَحتَمِلُ انتظاراً، وإذا كان من دافعٍ للإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة فإنّ “الدافع الاقتصادي” يأتي بالدرجة الأولى لأنّ أيّ تأخير سيُفاقِم أزمة الاقتصاد وسيَضَعُ البلد على شفير الانهيار، في حين أنّ أيّ تسريع في تشكيل الحكومة سيُعزّز أجواء الثقة والانفراج…
في الختام فلندع المناكفات والتجاذبات والشعارات السياسيّة جانباً ولتكن حكومة على مستوى التحديات ومستوى المرحلة وعنوانها ” الاقتصاد أوّلاً” تضمّ شخصيّات اقتصاديّة ملمّة ومتمرّسة في الوضع الاقتصادي ولها تاريخها وخبرتها في هذا المجال ومشهود لها بنظافة الكف أمثال محمّد شقير وجاك صرّاف وكثيرين غيرهما لا مجال لتسميتهم إسماً إسماً، من المُنضوين تحت لواء “الهيئات الاقتصاديّة”.