خبر

إبداعات الوزير المعجزة

غسان حاصباني: إبداعات الوزير المعجزة

رلى إبراهيم – الاخبار

 

«نظافة الكف» هي الأسطورة التي نُسِجت حول وزراء حزب القوات، لتمييزهم عن زملائهم في الحكومة. هذه الأسطورة تخص وزيراً قواتياً أكثر من غيره، هو وزير الصحة غسان حاصباني. السردية القواتية جعلت من حاصباني معجزة عصره، إذ حوّل وزارته في فترة وجيزة الى «خلية إبداع» لم يسبق أن شهدها لبنان يوماً. في ما يأتي عينة صغيرة عن إبداعات وزير الصحة القواتي خلال سنة ونصف السنة من ولايته

لم يكن قد مضى عام على تاريخ تأليف حكومة الرئيس سعد الحريري حين بادر موقع القوات اللبنانية إلى تعداد إنجازات «سوبرمان» وزارة الصحة غسان حاصباني. هذا الوزير «الاستثنائي» الذي حول الوزارة إلى «خلية إبداع». وهو على ما يبدو ما دفع بالموقع القواتي إلى الإبداع في إيهامنا أننا نعيش في بلد مختلف عن البلد الذي عيّن فيه حاصباني وزيراً. يخبرنا هؤلاء أن «الداخل إلى وزارة الصحة ما عاد يشعر بذل المرض أو الحاجة لاستعطاء معاملة طبية عاجلة، والركض في أروقة المسؤولين والسياسيين للفوز بواسطة ما ليحصل على أبسط حقوقه الوطنية والإنسانية، لنيل الموافقة على دواء ما أو إجراء عملية ما».

كيف ذلك والمواطنون لا يزالون يعانون الإذلال نفسه على أبواب المستشفيات ويستعطون الدواء من مكاتب السياسيين والسماسرة؟ لا همّ، الإبداع يولد الإبداع بطبيعة الحال حتى تكاد دموع القارئ تنهمر من الفرح بمطالعة ما سطّره موقع «القوات»: «تدخل الوزارة فتعرف أنها لك، لهمومك، إنها معنية بك وحيث لا موظفين هم الأسياد ولا سياسيين هم المتحكمون بالأرواح والصحة. صارت وزارة المكننة لأجل الإنسان مع فريق عمل متفانٍ لا يهدأ، وبابتسامة الأمل دائماً يستقبل وجع الناس ويهرع لحلها قدر الإمكان ولا يسأل أنت مين وزعيمك مين، بل شو وجعك، ألا يكفي كل ذلك ليكون حاصباني، وبهذه الفترة القصيرة وزيراً استثنائياً مع هذا الكم من الإنجازات؟!». وحتى لا يذهب «إبداع» حاصباني وموقع القوات سدى، أصبحت واجبة الإضاءة على هذا «الكمّ» من الإنجازات لمن يعرّفه حزبه بصاحب «الكف النظيف» والمشاريع الإنسانية الاستثنائية التي لا تنضب.

زيادة ربح الصيادلة

في الموضوع الإنساني البحت، يحل الدواء عامة في المرتبة الأولى، خصوصاً أدوية الأمراض المستعصية التي تشمل السرطان والتصلب اللويحي والأعصاب وفيروس الالتهاب الكبدي. ومن المفترض هنا أن تجهد وزارة الصحة لتأمين هذه الأدوية في شكل متواصل حفاظاً على صحة المواطنين. إلا أن الدين الذي رتبه حاصباني على الوزارة لمصلحة شركات الأدوية بلغ في عام واحد نحو 78 مليار ليرة فوق موازنة الدواء التي تبلغ قيمتها 146 مليار ليرة، ما حدا بالشركات إلى وقف إمداد الوزارة ببعض الأدوية الملحّة كأدوية بعض الأمراض السرطانية منذ شهرين ودواء التصلب اللويحي أخيراً… أدوية يصعب على المريض العيش من دونها. ذلك في ما عدا أن حليب الأطفال الاستثنائي الذي هو الآخر بمثابة دواء ضروري للحالات الخاصة مقطوع منذ مدة. لكن معاليه يصرّ على العيش في حالة الإنكار وتلوين الأزمة الصحية في لبنان بأقلام وردية.

ويبدو أن يده اليمنى لا تدري بما تفعله يده اليسرى، فمن جهة يتحدث عن السياسية السيئة للوزير السابق وائل أبو فاعور ومن جهة أخرى يعدل أسس تسعير الدواء الذي أقرها أبو فاعور والتي ساهمت بخفض كلفة أدوية باهظة الثمن والحدّ من ربح الصيادلة على حساب المواطن. فحاصباني أصدر قراراً في شباط الماضي يتيح إضافة 750 ليرة لبنانية على الأدوية التي يقل سعرها عن 23 ألف ليرة لبنانية. هذه الزيادة طبعاً تذهب مباشرة إلى جيوب الصيادلة الذين أعلنوا مراراً امتعاضهم من خفض أسعار الدواء. علماً أن الأدوية التي يقل سعرها عن 23 ألف ليرة لبنانية هي فئة الأدوية التي يبتاعها اللبناني في شكل دوري كأدوية تسكين الألم وخفض الحرارة. لا همّ، الحاصباني يبتسم لكم ويبلغكم: خفضنا سعر الأدوية. وللبنانيين أن يصدقوه ويبتسموا له عند كل إطلالة له على شاشة التلفزيون، وأن يتجاهلوا تقرير «جمعية حماية المُستهلك» (راجع «الأخبار» أمس، وتقرير الزميلة هديل فرفور في الصفحة ذاتها)، وما يمكنهم أن يعاينوه بأنفسهم من خلال مقارنة أسعار الدواء في لبنان والخارج.

«فضيحة صحية»

بعيداً عن الأدوية وحاجة كل المواطنين إليها، يبرز همّ آخر اسمه الاستشفاء وما يرافقه من صعوبة ومشقة يتكبدها المواطن الفقير غير المضمون أو الذي لا يحظى بتأمين صحي. إذ يضطر عندها إلى دخول المستشفى على حساب الوزارة، وحدث ولا حرج هنا عن «أخلاق» المستشفيات الخاصة التي ترفض استقبال هؤلاء المرضى مهما بلغت خطورة حالتهم، وعن وضع المستشفيات الحكومية المزري ونقص المعدات الطبية فيها. هكذا يقع المريض بين نارين؛ والإنجاز الأكبر في هذا المجال سيكون طبعاً في تحسين مستوى الاستشفاء الحكومي وتوفير موازنة خاصة له ولمعداته والاستشراس في الدفاع عن حقوق موظفيه. ولكن لحاصباني نظرة أخرى في توزيع السقوف المالية (سقف المبالغ التي تدفعها الدولة، عبر وزارة الصحة، لكل مستشفى، بدل استشفاء المرضى غير المضمونين) على المستشفيات الخاصة والحكومية والتي تبلغ 465 مليار ليرة. فللمرة الأولى في تاريخ وزراء الصحة المتعاقبين على الوزارة، يأتي وزير ليخفض سقوف المستشفيات الحكومية بدل زيادتها. يعلل المقربون من الوزير هذا «الإنجاز» بأن الطلب على المستشفيات الخاصة يفوق المستشفيات الحكومية بأشواط، لذلك كان لا بد من تعديل للسقوف. إذاً، بدل دعم المستشفيات الحكومية وتشجيع المواطنين على اللجوء إليها، يقرر الوزير «المُبدِع» أن الحل هو في خفض الأموال لها، وتالياً، خفض عدد المرضى الذين ستستقبلهم.

وفعلياً ما كان ينقص مستشفى رفيق الحريري الحكومي المقفل منذ مدة – شأنه شأن جميع المستشفيات الحكومية نتيجة إضراب الموظفين إلى حين منحهم سلسلة الرتب والرواتب – إلا خفض سقفه المالي بنحو 4 مليار ونصف مليار ليرة لبنانية، الأمر الذي دفع مدير المستشفى المنتهية ولايته فراس الأبيض إلى تقديم استقالته. لا ضرورة لأخذ أكبر مستشفى حكومي في بيروت وضواحيها في الاعتبار أو الطبقة الفقيرة التي لا ملاذ لها إلا القليل البائس الذي يوفره لها: الوزير أدرى بشعاب الوزارة. لذلك قرر معاليه ضرب المستشفيات الحكومية وتعويم المستشفيات الخاصة، رافضاً الاتهامات بتعزيز الزبائنية الطبية والارتهان السياسي لهذه الجهة أو تلك. الاعتمادات خضعت لمعايير «علمية»، وفقاً لمصادره، فمستشفى جبل لبنان الذي أضيف إلى اعتماده مليار ونصف المليار ليرة يصدف أن يكون مسؤوله الإداري والمالي جان أبي حيدر هو مسؤول قواتي. ومستشفى أوتيل ديو الذي حظي بموازنة كبيرة يصدف أنه لا يستقبل المرضى على حساب الوزارة، إلا بطلوع الروح، وبفاتورة مضخّمة: الفنان الراحل ملحم بركات أبرز دليل، ولولا ضغط أبو فاعور يومها على إدارة المستشفى لإعفائه من فارق الاستشفاء، كانت كلفة الفاتورة المسجلة 30 مليون ليرة ما يعني أن الفاتورة الشاملة بلغت 300 مليون ليرة! الزيادة نفسها وفرها الوزير حاصباني لمستشفى الجامعة الأميركية ومستشفى الروم ورياق مقابل خفض سقف مستشفى البوار الحكومي مثلاً من 3 مليار و200 مليون ليرة إلى 2 مليار و850 مليون ليرة. علماً أن المليارات الاثني عشرة التي تقرها الموازنة سنوياً للمستشفيات الحكومية وزعت بطريقة غير عادلة حيث نال مستشفى 10 أضعاف مستشفى آخر. وعند مراجعة الوزير أو مستشاره في هذه الشؤون إيلي زيتوني بالأمر، الجواب واحد: «القرار جايي من معراب هيك». جرى ذلك كله بواسطة فضيحة صارخة، فحاصباني أصدر قراراً جرى تسجيله يوم 21 أيار أي في اليوم الأخير للحكومة في حين أنه منح رقماً في تاريخ 17 من الشهر نفسه أي قبل أربعة أيام، يلغي فيه المرسوم الوزاري رقم 4599 الذي يحدد طريقة توزيع الاعتمادات على المؤسسات الطبية ليصدر قراراً يوزع فيه الاعتمادات الآنفة الذكر على هواه. ويجيز القرار رقم 935 الذي يحمل إمضاء وزير الصحة (حصلت «الأخبار» على نسخة منه) تعديل السقف المالي للمستشفيات والمؤسسات والمراكز والجمعيات المتعاقدة مع وزارة الصحة من الفئة الأولى استشفاء والفئة الثانية والثالثة والمخصص لها في المرسوم رقم 4599 عن عام 2018. كما يتيح القرار في مادته الثانية للوزير التعاقد مع المستشفيات والمؤسسات والمراكز والجمعيات غير الوارد ذكرها في المرسوم. كان لا بدّ من «تبكيل» الأمر برمته عبر زيادة 850 مليون ليرة إضافية على الاعتماد الذي يتلقاه نقيب المستشفيات سليمان هارون للمستشفى الخاص به. لكن يقول القانونيون في هذا السياق إن قرار وزير لا يلغي مرسوماً، إذ يمكن أي أحد الطعن به في مجلس شورى الدولة واسقاطه.

الاستشفاء عن بُعد

«نظافة الكف» هي التي ميّزت وزراء القوات عن غيرهم وساهمت في تلميع صورة مرشحي الحزب خلال الانتخابات النيابية. نظافة الكف إضافة إلى المساواة في التعامل مع المؤسسات الطبية والمستشفيات بعيداً عن المعيار السياسي والحزبي. وذلك كان المعيار الرئيسي لحاصباني خلال تعيين مجالس إدارة المستشفيات الحكومية، لا سيما في مستشفى زحلة التي أزيح مديرها «القومي» وحل مكانه مدير قواتي. وفي مستشفى سبلين الحكومي تم تعيين لجنة في ظل وجود مدير أصيل، أو تعيين طبيب قواتي على رأس مستشفى بنت جبيل! أما خاتمة الأعمال «النظيفة» فيقوم بها مستشارون قواتيون «لا يبغون الربح»، من خلال عقود مع جمعيات لا تبغي الربح. في موازاة ذلك كله، لا يفترض إنكار إنجازات حاصباني، فالأخير بارع في تعداد أرقام المرضى التي تتضاعف سنوياً وقدم اقتراحاً استثنائياً للاستشفاء عن بُعد (!) حتى لا يتكبد ابن بعلبك والبقاع والشمال والجنوب تكاليف مراجعة الأطباء في بيروت. يكفي ارسال نسخة عن الصورة المغناطيسية أو غيرها إلى أحد مراكز الرعاية الأولية عبر البريد الإلكتروني للحصول على استشارة طبية ووصفة ببريد إلكتروني آخر. وداعاً لفحص ملعقة الفم الخشبية والفحص السريري في استراتيجية «صحة 2025» التي أطلقها الوزير، وأهلاً بالتغطية الصحية الشاملة وتطوير المستشفيات الحكومية والسلامة الغذائية ورقمنة الوزارة وتفعيل قانون منع التدخين في الأماكن الخاصة… ولو بعد حين. فمعاليه لا يكترث للإنجازات الآنية ويتطلع دوماً إلى البعيد. الأهم هنا الحفاظ على «نظافة الكف».

وزير الاستعارة

لا يفرّط وزير الصحة غسان حاصباني بوقته للعمل على مشاريع قوانين. فملاحقة الوزير جبران باسيل تحتل سلّم أولوياته. لذلك وتوفيراً للوقت، عمد إلى استعارة مشاريع القوانين من زملائه أو إدخال تعديلات طفيفة عليها. مشروع الحكومة الإلكترونية مثال (أقرته حكومة رفيق الحريري عام 2002)، مشروع إدخال الباركود على نظام الدواء مثال ثاني (نفذه وائل أبو فاعور عام 2016)، خدمة الشباك الموحد مثال ثالث (افتتحه أبو فاعور في كانون الثاني 2016)، «خصخصة الكهرباء» مثال رابع (قدمه الوزير جبران باسيل وأقر في حكومة الحريري الأولى). وعلى هذه القاعدة، شغل الدنيا بمشروع القانون الذي قدمه حول الرعاية الصحية الشاملة ليتبين أنه استعاره مجدداً من النائب السابق عاطف مجدلاني الذي تقدم به عام 2013. لكن وللإنصاف، وضع حاصباني بعض التعديلات على هذا المشروع حتى يشمل كل اللبنانيين وهو ما يعدّ أمراً جيداً. لكن كيف يقترح معاليه تمويل هذه التغطية؟ «جزء كبير منه من موازنة الدولة وجزء منه تعاضدي ومساهمات بسيطة جداً من كل المواطنين اللبنانيين»، على ما قاله وزير الصحة في 15 كانون الثاني الماضي عقب انتهاء جلسة الإدارة والعدل. قبيل ذلك، وخلال تنظيم القوات لورشة عمل حول التغطية الصحية الشاملة، قدّم حاصباني نموذجه بعد دراسات مطولة مع خبراء شارحاً بالتفصيل أمر تمويله: موازنة الحكومة، الاشتراكات المسبقة الدفع (8 في المئة) من قيمة فاتورة الخلوي للمشترك أو ما يعادل شهر اشتراك للسنة الكاملة، والفروقات الاستشفائية، الفحوصات والأدوية، ومخصصات وزارة الشؤون الاجتماعية لفروقات الأشخاص الأكثر فقراً. وبحسب حاصباني، «تتم زيادة رسوم التغطية كل خمس سنوات بنسبة 5 في المئة ويطبق بصورة إلزامية ويربط بفاتورة الخلوي حيث يتمّ حسم الاشتراكات شهرياً من حساب الخلوي (المدفوع مسبقاً) أو فاتورة الخلوي (للخطوط الثابتة) بمعدل 10000 ل.ل شهرياً (6.67 $) كمشاركة في التأمين الإلزامي أو 333 ليرة في اليوم للحصول على تأمين صحي مدعوم من الدولة يشمل الفحوصات والاستشفاء وأدوية السرطان والأمراض المزمنة والمستعصية». يقوم حلّ وزير الصحة القواتي على فرض ضرائب إضافية على المواطنين يحلو له أن يسميها «مساهمات بسيطة جداً»! تريدون تغطية صحية شاملة؟ ادفعوا مقابلها. المعادلة بسيطة و…. إلزامية! لكن كان يمكن أن يسجل لحاصباني منح اللبنانيين دقائق من وقته الثمين حتى يفكر بطريقة لتمويل هذا المشروع. الفرحة لم تتم بالطبع، فحتى في هذه المسألة استعار الوزير دراسات غيره: خلال ورشة العمل، قال حاصباني إن هذا النموذج طُبّق بنجاح في كينيا، والأهم أنه حاز على إعجاب المنظمات الدولية!

وفي جميع الأحوال، لو أن حاصباني مقتنع حقاً بـ«مشروعه»، كان في مقدوره المطالبة بإقراره، بصورة جدية، وخوض معركة لأجل إقراره، بدل اعتبار «التنقير» على وزير الطاقة سيزار أبي خليل هدفاً وحيداً لتجربته الوزارية.