فراس الشوفي – الأخبار
يظل الصّراع على زعامة المسيحيين اللبنانيين، وتالياً التنافس على رئاسة الجمهورية، المحرّك الأساس لتنافس الأحزاب والزعامات المارونية، التي مهما اختلفت أجنداتها السياسية، تسخّر مقومات المسيحيين لأجل كرسي الرئاسة، متناسيةً أن رئاسة الجمهورية اللبنانية لم تُفَصَّل على قياس أشخاص، بل على قياس مراحل وأدوار.
منذ انتخابات عام 2005، وحتى عشيّة انتخابه رئيساً للجمهورية في خريف 2016، كان ضابط المدفعية ميشال عون هدّافاً بارعاً. راكم حزمةً من الرهانات الصائبة على سلّم أهدافه، منطلقاً من الثقة التي اكتسبها، على الرغم من خسارته المدويّة في 1990. لم يكد يوقّع اتفاق مار مخايل مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (شباط 2006)، حتى اندلعت حرب تمّوز، فبقي متماسكاً، لا بل مقتنعاً بحتمية النصر، على الرغم من بعض التردّد الذي أصاب محيطين به.
وعشيّة أحداث 7 أيار 2008، وقف عون إلى جانب المقاومة، على الرغم من التهويل الخارجي… ونجح رهانه. ثمّ سار في تسوية الدوحة، إدراكاً منه بأن لحظته المناسبة (الرئاسية) لم تحن بعد. وعشية انتخابات 2009، لم يجزع عون من زيارة سوريا، معمّداً تحالفاً وثيقاً مع الرئيس بشّار الأسد، سبق لمعالمه أن بدأت ترتسم قبل عودة «الجنرال» إلى لبنان في ربيع 2005. ومع بدء الأزمة السورية، استمع عون إلى وجهات نظر متعدّدة، بعضها كان «متيقناً» من سقوط النظام في سوريا ويفضّل النجاة مبكراً، فيما سار هو يقيناً بوجهة نظر معاكسة، مقتنعاً بأن النظام لن يسقط، وأن سقوط دمشق في أيدي الجماعات التكفيرية يعني نهاية المنطقة ولبنان.
عون ليس قارئاً محلياً أو إقليمياً. قرأ في السياسة الدولية متحيّناً اللحظة، وهي أتت، بعد أن كان حلفاؤه قد أعدّوا الأرضية لها بالتمسّك به مرشّحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية. وما إن اختمرت العلاقات الإيرانية ــ الغربية على تهدئة واتفاق نووي، حتى دخل عون رئيساً إلى بعبدا. الآن، بعد أقل من عامين، لم يتغيّر عون. لكنّه سلّم راية التفاصيل لصهره الوزير جبران باسيل، لأسباب كثيرة، وهو عبّر أكثر من مرّة، عن رغبة أو قناعة، بأن يكون باسيل حامل الإرث، الذي لا طريق له إلّا واحدة، هي رئاسة الجمهورية المقبلة.
على طرف نقيض، منذ خروجه من السجن بعفوٍ عام، لم يُصب سمير جعجع سوى مرّة واحدة. سرعان ما انقلب رئيس القوات على التحالف الرباعي في 2005، مزاحماً وليد جنبلاط على قيادة 14 آذار والعداء لسوريا والمقاومة. الحكاية معروفة في حرب تمّوز، ثمّ بعدها في أيار 2008، حين أخطأ جعجع الرّهان على هزيمة حزب الله وسحق المقاومة. ومع بداية الحرب في سوريا، أعاد جعجع بثّ الطمأنات ذاتها التي بثّها يوم نفذ «الدواعش» غزوة الأشرفية الشهيرة. غير أن المحطّة الأبرز، كانت في غزوة القاع، التي اجتاحها ثمانية انتحاريين مخلفين عدداً من الشهداء والجرحى. استفاق جعجع على عمق تماهي المسيحيين اللبنانيين مع قتال حزب الله إلى جانب الجيش السوري، وتفاعلهم مع أنباء الحرب السورية بكثيرٍ من الحماسة، النابعة من حتميّة الانتصار على الخوف، التي ولّدتها تضحيات آلاف الشهداء اللبنانيين والسوريين في دفاعهم المستميت عن سوريا ولبنان والمشرق.
أيقن جعجع صعوبة مواجهة عون في السياسة وسقوط خيار «فليحكم الأخوان». منذ ذلك الحين، سار جعجع نحو استراتيجية جديدة قائمة على ركيزتين: أولى، تتمثل في تثبيت نفسه «المسيحي الثاني الأقوى» الذي ساهم في وصول عون ــ «المسيحي الأول الأقوى» ــ إلى رئاسة الجمهورية في معادلة ثبّتها عون نفسه. ثانية، عنوانها الإنماء ومكافحة الفساد والهموم الحياتية. وهذه الأخيرة، سهلة التسويق، ما دام التيار الوطني الحرّ، في مرحلة ما بعد عون رئيساً له، قد انقلب على كلّ شعارات الإصلاح الداخلية التي قام عليها، والتي على أساسها بنى عون شرعيته الأولى حين واجه فساد ميليشيا القوات في «المنطقة الشرقية». كما استفادت القوات من مظلومية انقلاب العونيين على «تفاهم معراب».
القوات تنجح في إدارة المعركة
بلا شكّ، شكّلت نتائج الانتخابات النيابيّة الأخيرة نوعاً من المفاجأة لقوى 8 آذار وما تمثّل، ولو أن مسار العام الماضي كان ينبئ بصعود نجم القوات اللبنانية في الساحة المسيحية، مستفيدة من أخطاء التيار الوطني الحرّ. ولكي لا تُظلَم القوات، فإن انضباط البنيان التنظيمي للحزب، كان من عناصر إتقان إدارة المعركة الانتخابية.
نظّم القواتيون أنفسهم وفق هيكلية مركزية قوية، مستخدمين وسائل الدعاية والشعارات التعبوية التي تشدّ عصب الشباب والجامعيين تحديداً في الساحة المسيحية. ابتعد القواتيون عن الخطاب الطائفي المباشر في العلن، فيما التزموا شدّ العصب المسيحي في الدروس والحلقات المغلقة للمحازبين. وأمام الجمهور اللبناني، رفع القواتيون شعارات التيار الوطني الحرّ نفسها، حول الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد، وأحسنوا خلق صورة جديدة تبلغ حد «أسطرة» وزرائهم، ولم يلجأوا إلى إقصاء موظّفي الوزارات والإتيان بموظّفين محسوبين عليهم حصراً، بل استفادوا من بنية الوزارات وطعّموها بمناصرين لهم، كما لم يحصروا الخدمات بمناصريهم والحزبيين.
في مرحلة الانتخابات، بنى القواتيون ماكينة انتخابية حديثة، درست أشهراً القانون الانتخابي، واختارت على أساسه المرشّحين الذين تكسب ولاء غالبيتهم، في الموقف السياسي أوّلاً. كذلك لم تدخل القوات في معارك جانبية مع قوى سياسية أخرى لا طائل منها، بل حافظت على هدوء الحدّ الأدنى، حتى مع حزب الله وأبرز خصومها في الساحة المسيحية كتيار المردة والحزب السوري القومي الاجتماعي. وعلى الرغم من الخلاف مع الرئيس سعد الحريري، نجح القواتيون، بضغط خارجي وبمصلحة مباشرة للطرفين، في نسج تحالف انتخابي مع الحريري، في عكار والبقاع الشمالي.
التيار يصرف رصيد عون
على المقلب الآخر، وبدل أن يضيف التيار الوطني الحر إلى رصيد عهد عون، بدا طوال مرحلة ما قبل الانتخابات معتاشاً على ما راكمه الجنرال طوال سنوات تجربته، ويصرف من رصيده. تزامن اتفاق عون ــ جعجع، مع إمساك باسيل بقرار التيار الوطني الحرّ التنظيمي، بما لا يخرج كثيراً عن سياق باقي أحزاب الطوائف اللبنانية. لكن فجاجة الإجراءات الداخلية، وتعديل النصوص، أبعدا التيار عن إمكانية تحوّله إلى حزب سياسي بالمعنى التنظيمي. إلّا أن هذا الإجراء، لم يكن ممكناً، إلا بإبعاد فئة واسعة من ناشطي التيار، وتحديداً فئة القدامى ممن تمرّسوا في الشارع المسيحي، ذاكرة وراهناً، ما أفقد التيار إلى حد فئة «المناضلين»، وإمكانية مواجهة القوات، التي استذكرها باسيل عشيّة الانتخابات، من باب الاغتيال السياسي، بعد أن لمّع العونيون صورة جعجع في الشارع المسيحي، عشية اتفاق معراب.
وبدل هذه الفئة، ذهب باسيل بعيداً، خصوصاً في مرحلة الانتخابات، إلى تعويم شخصيات ووجوه، تحمل ذات العصب الطائفي القواتي، وبعضهم يتبنى المنطق ذاته تجاه العداء لإسرائيل، واضعاً المسيحيين الذين اختاروا عون لاعتداله، إلى العودة لـ«الجذور»، القواتية، بما أن الخطاب صار واحداً. وعدا عن لجوء التيار إلى مرشّحين لا يحملون الالتزام السياسي ذاته، وينضوون الآن في كتلة «لبنان القوي» تحت عباءة عون وحده، سبّبت المعارك الوهمية مع الرئيس نبيه برّي والمعارك غير المدروسة مع النائب وليد جنبلاط، ندوباً يحتاج علاجها إلى وقت وإرادة سياسية.
وليس بعيداً عن الصّدام مع القوى السياسية، يميناً ويساراً، خسر التيار الوطني الحرّ دعم العديد من حلفائه في قوى 8 آذار، بعضهم لمصلحة التحالف مع الحريري، وبعضهم الآخر بلا سبب منطقي، سوى التهوّر والعنجهيّة، مثل «سنّة 8 آذار»، والحزب القومي، الذي لطالما شكّل خط الدفاع الأوّل عن العونيين، على الأقل منذ 2005 وحتى 2008 بوجه القوات اللبنانية والكتائب، من المتن الشمالي إلى الكورة وعكّار. وفي جلسة ما قبل الانتخابات النيابية بين نصرالله وباسيل، طرح الأخير على قيادة حزب الله التخلي عن مرشّحي الحزب القومي في البقاع والجنوب، لمصلحة مرشّحين من التيار، فردّ نصرالله بالتشديد على أن ما يجمع الطرفين أبعد من انتخابات إلى تحالف معمّد بالدّم وبالتزامات أخلاقية. وحين ردّ باسيل بالقول إنه سيعمل على فرط القوميين في الانتخابات، ذكّره نصرالله بأنه حين أغلق المجلس النيابي حتى انتخاب عون، لم يفعل ذلك حزب الله وحركة أمل وحدهما، بل مع حلفائهما في القومي وحزب البعث وغيرهم.
مرحلة تجميع الحلفاء
الجلسة الأخيرة بين نصرالله وباسيل، تحمل في طياتها أبعد من كلام تكتيكي، إلى نقاش في العمق حول الأزمات التي تقف عندها المنطقة. وتلك أخطر ممّا سبق، مع اختلاف الأساليب والقوى المؤثّرة. وإن كان باسيل وجعجع منخرطين اليوم في «حرب إلغاء جديدة» استعداداً للمعركة الرئاسية المقبلة، فإن حزب الله اليوم ليس في مرحلة تجميع الأعداء، بل الأصدقاء والحلفاء. وهذا الأمر يضع على كاهل التيار الوطني الحر مسؤولية، بالحفاظ على التيار أوّلاً، ودور المسيحيين ثانياً. في النقطة الثانية، لن يفاجأ باسيل عندما يجد حزب الله ونبيه بري أكثر حماسة من أي وقت مضى لإشراك القوات والكتائب وكل القوى المسيحية في المؤسسات كلها، أي رفض منطق العزل الذي كلف لبنان واللبنانيين غالياً في مراحل سابقة.