لم يكن الإعلامي عباس ناصر طامحاً لدخول مجال الإعلام حين كان طالباً جامعياً اختار التخصّص في مجال العلوم الاجتماعية. كان وقتها ناشطاً في كليته يهتمّ بمجلس شؤون الطلاب، إلا أن زيارةً إلى إحدى القنوات اللبنانية المحلية للمشاركة في دورة تدريبية منحته فرصة الانضمام إلى فريق المراسلين لينطلق بعدها صدفةً في مشواره المهني كمراسل على قناة «المنار».
ورغم اختياره مجال العلوم الاجتماعية، أظهر ناصر شغفه في الكتابة وكانت له تجربة في هذا المجال ليحلّ قلمه ضيفاً على بعض الصحف. وسرعان ما أثبت ناصر مهارته، فبدأ بجذب المحطات العربية، ليستقطب سريعاً اهتمام قناة «الجزيرة» التي انضمّ اليها بداية عام 2004.
هناك، لمع اسمه في أكثر من حدث، من طهران إلى غزة إلى تركيا وأذربيجان وبنغلادش وصولاً إلى تميّزه اللافت في تغطية الحدث السياسي اللبناني وسطوع نجمه في «حرب تموز» 2006، ولاحقاً في أسطول الحرية» الذي واكبه بالتغطية منذ انطلاقته إلى ما بعد احتجازه من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي .
في عام 2007، كان على وشك الانتقال إلى قناة «بي بي سي» كمدير لمكتب بيروت، إلاّ أن تدخُّل أمير قطر وقتذاك الشيخ حمد بن خليفة حال دون ذلك، فعدل ناصر عن استقالته استجابة لرغبة الأمير وعُيّن مراسلاً أول في قناة «الجزيرة» مع امتيازات خاصة.
عام 2016، ترك ناصر «الجزيرة» ليضع خبرته الإعلامية في مكان جديد. هذه المرة لم تكن التجربة كمراسل، بل كمدير عام لقناة «تلفزيون العربي» القطرية المتعثرة آنذاك، والتي تتبع لمجموعة فضاءات التي يديرها من الدوحة النائب السابق في الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة.
وفي فترة قياسية نجح ناصر في انتشال القناة من تعثرها ووضعها على سكّة المنافسة مع الفضائيات العربية الأخرى.
أتقن ناصر فنّ إدارة القناة فحوّلها إلى خلية عمل وفتح أبوابها لعدد من الصحافيين العرب، فكان نجاحه في تجربة «تلفزيون العربي» علامة فارقة. لكن رغم ذلك، لم تدم العلاقة طويلاً، فقد انتقلت القناة من مقرها الرئيسي في لندن، حيث يتواجد ناصر ويترأس الإدارة، إلى قطر، من دون «المدير».
خلال حديثه لـ«صدى الوطن»، يتحفّظ ناصر عن ذكر تفاصيل عدم انتقاله للدوحة مكتفياً بالإشارة إلى أنها لأسباب شخصية وعائلية. إلا أن انتقاله الحالي إلى قناة «الغد» التي تتخذ من القاهرة مقراً لها، يشي بأن التحفظ على الانتقال كان لخلافات مع عزمي بشارة نفسه.
تحديات مختلفة
مع انتهاء القطيعة بين دول مجلس التعاون الخليجي وقطر، هدأت الهجمات الإعلاميّة المُتبادلة، وعادت معظم هذه الفضائيات إلى شؤونها التقليدية، فسلّط بعضُها الضوء على ما تصفُه فضائيات الإمارات والسعودية مثلاً بـ«التدخل الإيراني الُمزعزع للاستقرار»، وعاد بعضُها الآخر وخصوصاً في قطر يُفسح مجالاً أوسع لأوضاع فلسطين وأزمات الدول العربية الغارقة في الحروب مع الاستمرار في الموقف المناهض لبعض الأنظمة في سوريا ومصر. وإن لم يعد غريباً مع انتهاء المقاطعة أن نرى مثلاً إعلاميين يتنقّلون بين فضائيات قطر والإمارات، إلاّ أنّ انتقال عباس ناصر إلى فضائية «الغد» الممولة من الإمارات العربية المتحدة وبرعاية القيادي الفلسطيني محمد دحلان، لشغل منصب مدير عام القناة، يبقى الانتقال الأبرز على صعيد الإعلام العربي.
عن هذا الانتقال يقول ناصر إنه «يحق لأي صحافي أو إعلامي الاستفادة من أية تجربة جديدة، طالما أنه يحمل رؤية مهنية يستطيع تطبيقها بطريقة محترفة في أي مشروع». ويرى ناصر أن اختياره من قناة تتبنى خطا تحريريا مختلفا شهادة لمهنيته ولمهنية القناة، ودليل على أن الطلب على المهنية لا يزال حقيقيا، كما أنه انتصار للرؤية التطويرية للإعلام العربي. ويصف ناصر انتقاله إلى «الغد» بـ«التحدي الجديد»، معرباً عن ثقته بتحقيق النجاح، تماماً كتجربته مع «العربي» وأكثر.
هكذا يقول ناصر
لم يشهر المدير الجديد لقناة «الغد» أية إشارة سلبية تجاه العاصمة القطرية التي خسرت أحد رموزها الإعلامية لصالح أبوظبي، وربما هذه هي الصورة الأوضح من هذا الانتقال: هدف إماراتي نظيف في مرمى الدوحة، أو ركلة جزاء دحلانية في مرمى عزمي بشارة!
يصح القول في ناصر أنه «رجل المهمات الصعبة»، خصوصاً بعد نجاحه اللافت في تطوير «التلفزيون العربي» الذي حقق نقلة نوعية في ظلّ إدارته، وربما لم يكن صدفة اختياره لقيادة تلفزيون «الغد» الذي تعثّر في بداية رحلته بعد انطلاقته من القاهرة، المكان نفسه الذي انطلق منه «التلفزيون العربي» قبل أن ينتقل إلى لندن إثر سقوط حكم «الإخوان» في مصر.
أطلق ناصر شعاراً جديداً للمحطة «فكر جديد.. رؤية مختلفة»، ليتبنى عملية التطوير الشاملة على المستويين الإداري والفني، وإعادة إطلاق القناة بشكل ومضمون جديدين». ومن أولويات ناصر في مهمته الجديدة، تقديم مادة جديدة للمشاهد في ظل ازدحام السوق الإعلامي وأجواء المنافسة.
يؤمن ناصر أن «أهمية الإدارة تكمن في عملية الترميم الداخلي، من خلال احتضان الموظفين، ومن ثم نشر الوعي عبر المنصات الرقمية التي يتوقع لها ناصر أن تزداد شعبية على المدى القريب.
في الواقع، ليست التجربة الإعلامية الحافلة لناصر سوى انعكاساً لحيوية الإعلام العربي وارتفاع حدّة المنافسة بين القنوات وبين الإعلاميين في القناة الواحدة. وهذا يحيلنا إلى إلقاء نظرة سريعة على واقع الإعلام العربي.
منافسة قوية
في آخر تقرير أصدره اتحاد إذاعات الدول العربية، كشف أن عدد القنوات الفضائية التي تتولى بثها، أو إعادة بثها، هيئاتٌ عربية عامة وخاصة بلغ 1,394 قناة. بينها 170 قناة رياضية و152 قناة أفلام ومسلسلات، و124 قناة غنائية وفنية و95 قناة دينية معظمها إسلامي وما يقارب 10 منها فقط مسيحية. أما القنوات الإخبارية فلا تتعدى 68 قناة.
والواقع أنّ الوطن العربي عاش منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي أحداث هائلة فرضت انتشاراً واسعاً للفضائيات. أحداث كثيرة تطلبت مخاطبة الرأي العام بلغة جديدة. لم يكن في الوطن العربي في مطلع التسعينيات تلفزات عابرة للدول وإنما بعض التلفزات المحلية التي دار معظمها في فلك محلي إضافة إلى بعض الأبعاد العربية التي غالباً ما ارتبطت بالتمويل للترويج، أو بعض الأحداث العالمية التي فرضت نفسها. بل أن كثيرا من الإعلام العربي كان يحظى بتمويل من زعماء عرب مثل صدام حسين ومعمّر القذافي وزين العابدين بن علي ومنظمة التحرير الفلسطينية وبعض دول الخليج في فترة المحاور العربية أو لدعم القضية الفلسطينية، وقد كان لُبنان وصحافته خير مثال على ذلك.
باستثناء بعض الفضائيات المصرية، فان أول دخول عربي كبير على عالم الفضائيات في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تمثل بقناة MBC السعودية في 18 أيلول (سبتمبر) 1991 بتمويل سعودي غير رسمي. وهي التي كادت عربياً تتفرد بنقل الحرب اليمنية بين الشمال والجنوب. بعدها تأسست قناة «الجزيرة» التي بدأ بثها في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 1996، لتحدث الفرق الكبير في المشهد الإعلامي العربي وتكسر الكثير من المحرمات أو التابوهات في علاقة الحكام بشعوبهم وفي النقاشات الاجتماعية والحريات وغيرها… لقد شكّلت «الجزيرة» نموذجاً احتذت به معظم الفضائيات الأخرى خصوصاً لجهة البرامج الجدلية والمثيرة للخلافات والاشتباكات الإعلامية في تقليد ممجوج لبرنامج «الاتجاه المعاكس» الذي برز من خلاله فيصل القاسم.
وأما في التغطيات الكُبرى فقد اشتهرت القناة القطرية، أولا في تغطيتها لحرب أفغانستان، ثم في حرب العراق حيث تنافست مع فضائية «أبو ظبي»، وتبنّت تغطية أحداث غزة بتفاصيلها فحقّقت شعبية واسعة في الوطن العربي، خصوصاً أنها اعتمدت على نخبة من الإعلاميين وخبراء المهنة وعلى تقنيات عالية وتمويل كبير، وخاطبت ضمنياً الكثير من الوجدان العربي ومن توق الشباب العربي إلى كسر الممنوعات في عدد كبير من المجالات الحياتية والاجتماعية والسياسية.
مع نجاح قناة «الجزيرة» في فرض نفسها لاعباً إعلامياً كبيراً وخطيراً على الساحة العربية، ومع مساهمتِها في دعم الدبلوماسية القطريّة التي انتقلت من التحفظ التاريخي إلى الانفتاح ثم التدخل ثم لعب أدوارٍ أكبر على الساحتين العربيّة والدوليّة، تفاقمت حاجة الدول الأخرى إلى فضائيات تُعبّر عن سياساتها.
تقدمت الإمارات خطوات كبيرة عبر فضائياتها وكادت توازي لا بل تنافس «الجزيرة» في عدد من المحطّات، لكن مع وفاة الرئيس المؤسس الشيخ زايد في العام 2004، ومع انتهاء حرب العراق بهزيمة صدّام حسين، هدأ اندفاع الفضائية الإماراتيّة وعادت فضائيات الامارات القديمة أو الأحدث (مثل سكاي نيوز عربية) إلى الاهتمام بقضايا العالم والوطن العربي دون إثارة ومع انخراط أقل في المحاور إلاّ ما تعلق بالدور الإيراني والتنظيمات الدائرة في فلكه من «الحشد الشعبي» في العراق إلى «حزب الله» في سوريا ولبنان مرورا بـ«أنصار الله» الحوثيين في اليمن.
لعلّ ما وصف بـ«الربيع العربي»، هو الذي أظهر بوضوح حجم التباين بين فضائيات الإمارات والسعودية من جهة والفضائية القطرية من جهة ثانية، ذلك أن قناة «الجزيرة» والتلفزات ووسائل الإعلام الممولة قطرياً دعمت جماعة «الإخوان المسلمين» في كل الدول التي حدثت فيها ثورات، وساهمت في تأجيج الأوضاع ضد السلطات القائمة، بينما معظم الدول الخليجية الأخرى التي ناهض بعضها على نحو علني الأنظمة نفسها (مثلاً في سوريا واليمن وليبيا…) سعت لإقامة سد إعلامي أمام المدّ «الإخواني» الذي وصل أعتاب الخليج.
لا يوجد قياس جدي لمدى انتشار فضائيات قطر والإمارات، ذلك ان معظم مؤسسات سبر الآراء والاستطلاع تبقى قابلة للشك، لكن الأكيد أن قناة «الجزيرة» ما زالت الأكثر حضوراً على الساحة العربية، ربما لأن الفضائيات الإماراتية تُركز أكثر على الشؤون الداخلية والدولية وتتجنب الانخراط الحاد في الساحات العربية الملتهبة.
فهل سينجح عباس ناصر في مهمته الجديدة وسط هذا البحر المتلاطم من الفضائيات؟ وهل سيقدم إضافة نوعية للإعلام العربي عامة والإماراتي خاصة، تُسَجَّل في مسيرته المهنية الحافلة؟
المصدر: صدى الوطن